منذ الصغر حفظنا قوله تعالى عن ظهر قلب: "وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً، وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً"، وكل منا يسعى جاهدًا إلى بر والديه في صور شتى، ولكن كيف يمكن أن يبر الابن والديه إذا كان بعيدًا عنهما؟، مثلًا لو كان مسافرًا للدراسة، أو مستقرًا في بلاد الغربة.. هذا ما نتحدث عنه في السياق التالي:
يقول د.عاطف أبو هربيد الأستاذ المساعد في كلية الشريعة والقانون بالجامعة الإسلامية: "الجميع يدرك قيمة بر الوالدين خاصة أن الله سبحانه وتعالى قرنَ عبادته وطاعته ورضاه بذكرهما، وهذا يدلل على منزلة الوالدين العظيمة، من خلال سن حقوقٍ واجبة على الأبناء".
وأضاف: "فضلًا عن الأحاديث الكثيرة التي حذرت من عقوقهما ككبيرة من الكبائر والتي توجب دخول النار، كما وجعل الله العاق في كتابه جبارًا شقيًا، لقوله تعالى: "وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا"، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "ألا أنبئكم بأكبر الكبائر: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين".
وأوضح د. أبو هربيد أن هناك صورا كثيرة لبر الوالدين، وكلٌ يبر والديه وفقًا لاستطاعته، فهناك أناس رزقوا نعمة المال إذ يمكن أن يصل والديه من خلال الإنفاق عليهما، ومن تعذر عليه القيام لهذا الدور فهناك أبوابٌ أخرى، ومنها طاعتهما وتلبية أوامرهما، والخضوع والتذلل لقوله تعالى: "وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا".
وأشار إلى أن من البر أيضًا التواضع لهما ومعاملتهما بلينٍ ورفق، وصلة رحمهما وأقاربهما، بالإضافة إلى أن يقوم على رعايتهما، وأن يقوم بكل ما يدخل السرور إلى قلبيهما ما دام لا يدخل في دائرة المعصية، وخفض الصوت أثناء الحديث، واستخدام أطيب وأعذب الكلمات في الحديث معهما، إلى جانب حسن المعاملة خاصة في عند الكبر، وعدم التذمر من طلباتهما حتى لو كانت كثيرة، كما أن تحقيق رغبة الوالدين يعد من باب البر أيضًا.
وأشار د. أبو هربيد إلى أن هذه هي ترجمة البر في من كان حاضرًا مع والديه إضافة إلى الزيارة اليومية والسؤال عنهما، وتقديم الهدية لهما من وقت لآخر، والدعاء لهما في ظهر الغيب.
أما بخصوص من اضطرته ظروف الحياة لمغادرة بلاده والسفر والابتعاد عن والديه، فبين أنه لم يسقط عنه البر، لأنه ليس منوطاً بالقرب منهما والجلوس معهما والعمل على خدمتهما فقط، وبالتالي يمكن للمغترب أن يحقق البر من خلال الاتصال والتواصل الدائم معهما، وفي الظروف الحالية قد سهلت مواقع التواصل الاجتماعي ذلك بحيث لم يعد مكلفًا كما السابق.
وتابع د. أبو هربيد حديثه: "بالإضافة إلى نقل الأخبار المفرحة لهما والتي تدخل السرور إلى قلبيهما، كما يمكن للابن المغترب إذا كان يعمل في بلاد الغربة وظروفه المالية ميسرة، كل فترة وأخرى أن يرسل لهما مبلغا ماليا أو هدايا، كما لا بد أن يحرص على الاطمئنان الدائم عليهما".
ونوه إلى أنه يمكن للشاب المسافر للدراسة أن يخفف عن والديه أعباء الحياة وألا يكلفهما فوق طاقتهما في طلباته الزائدة، وخاصة فيما يتعلق بإرسال المبالغ المالية، إلى جانب الدعاء في ظهر الغيب، ومن أعظم البر أن يعود إليهما حاملًا شهادة.
ولفت د. أبو هربيد إلى أن أهمية البر تكمن في أنهما سبب وجوده، وهذا الإحسان لا بد أن يقابل بإحسان، فكيف سيوفق في حياته لو كانوا ساخطين عليه لا سمح الله؟، وبالتالي لن ينظر الله إليه بعين الرحمة، كما أن أبواب الرزق والحياة ترتبط برضا الوالدين.