انشغلت الأوساط الإعلامية والسياسية الإسرائيلية في الساعات الأخيرة باستعادة ساعة الجاسوس الإسرائيلي إيلي كوهين، بعد خمسة عقود على إعدامه في سوريا، باعتباره إنجازا استخباريا لجهاز الموساد من جهة، واستكمالا لجهود أمنية وسياسية تبذلها دولة الاحتلال لاستعادة رفاته، ودفنه فيها..
لا تناقش السطور التالية السجل الذاتي للجاسوس كوهين، وحجم الخدمات التي قدمها لكيان الاحتلال داخل الدولة السورية، فذلك مجال انشغلت به كتب الاستخبارات المنشورة ومذكرات قادة الاحتلال، بما سمح به الرقيب العسكري..
في هذه العجالة تبدو الحاجة ملحة للتنويه والتحذير من وجود العديد من "كوهينات" العصر، إن صحت صيغة الجمع وفقًا للغة العربية، فلئن قام كوهين بمهامه التجنيدية من مشغليه الأمنيين القابعين في تل أبيب خلال العقود الماضية، فإن خطورة النماذج المستنسخة من الكوهينات الجدد في السنوات الأخيرة تكمن في أن لديهم تقدير موقف يقترب من اليقينية والعقدية أن ما يقومون به من مهام ووظائف تخدم مصالح أوطانهم بالدرجة الأولى، وإن تقاطعت مع المصالح الإسرائيلية، فهذا لن يضيرها.
قد لا يخفى على الكثيرين الجهد الذي بذلته، وما زالت، دولة الاحتلال ودوائر صنع القرار الأمريكية وبعض الأوروبية في إجراء غسيل دماغ خطير وبعيد المدى لثلة ممن يتولون أمر العديد من البلدان العربية، بحيث باتوا يعيشون حالة من التنويم المغناطيسي في إدارة شئون بلادهم، وكأن هناك أحدا ما، في بقعة ما، يصدر تعليمات ما، تخدم في النهاية هذا الاحتلال الذي يغتصب أرضنا، ويدنس مقدساتنا، ويقتل زينة أبنائنا..
يتزامن هذا التقدير مع ما يبثه الاحتلال بين حين وآخر عن تقدم في علاقاته السياسية والأمنية والاقتصادية مع دول الجوار، ولئن كانت المبالغة تطفو على الكثير مما ينشره، لكنه لا يلغي الواقع القائم ببعض زواياه السوداء، عبر نخب فكرية وسياسية وأمنية في البلدان العربية، تقوم بأخطر وأفدح مما قام به كوهين في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، حين سرب أسرارًا عسكرية تخص بلاد الشام للموساد الإسرائيلي.
"الكوهينات" الجدد باتوا معروفين مكشوفين، وليسوا في حاجة لأن يتنكروا بأسماء وهمية أو رمزية، كما فعل "كامل أمين ثابت"، لأنهم يعيشون بين ظهرانينا، يتسمون بأسمائنا، يأكلون من موائدنا، ويظهرون على شاشاتنا، ويكتبون في صحفنا..
بتنا نعرف الكوهينات الجدد حين يتهمون المقاومة بالإرهاب والتخريب، ويعتبرون أيقونة هذا العصر من المقاومين الشرفاء رجساً من عمل الشيطان، وجزءاً من أجندات غير عربية وغير فلسطينية، وبالتالي لا بد من محاربتهم، ويجاهرون علناً بالتنسيق الأمني مع دولة الاحتلال، والاجتماع بمن شغلوا وجندوا كوهين قبل عقود، وينشرون ثقافة التطبيع مع المحتل الغاصب، وترويض جماهير الأمة، وتدجينها، ومحاولة إفهامها بأن شمعون وغدعون هما أصحاب أرض وليسوا محتلين لها.. فهل عرفناهم؟