لم يعد سراً أن الانشغال الإسرائيلي بتطورات الجبهة الشمالية، تحديدا لبنان وسوريا، بات يتصدر جدول الأعمال السياسي والأمني والعسكري في تل أبيب، وهو أمر يبدو مشروعا ومنطقيا في ظل المخاطر الجدية التي يراها الإسرائيليون محدقة بهم، إن تمكنت إيران من تثبيت وجودها العسكري في الأراضي السورية، وتحديدا في الجانب السوري من الجولان المحتل.
لكن هذه الفرضية الواقعية، لا تعني أن تضع المؤسسة العسكرية الإسرائيلية جانبا أي مخاطر جانبية، لاسيما الكامنة في غزة، في ظل الحملة الإعلامية والدعائية داخل الأوساط السياسية، التي تحرض الحكومة والجيش على اتخاذ قرار بتنفيذ حملة عسكرية قاسية ضد غزة، مع استمرار المسيرات الشعبية وإطلاق الطائرات الورقية.
هذه السطور لا تنشغل كثيرًا بفرضيات وأهداف ومسببات القرار الإسرائيلي بتصعيد الميدان ضد غزة، ورفعه بما يزيد عن الضربات الموضعية الحاصلة، وإنما في مناقشة مدى واقعية الحديث الذي يربط بين التركيز الإسرائيلي، بشقيه السياسي والعسكري، على الوضع في سوريا ولبنان، وبين ما يعنيه من عدم تفكير طارئ نحو غزة، في حال جد جديد ميداني، يستدعي زيادة وتيرة الضربات وصولا لمواجهة واسعة.
من الناحية العملياتية والإحصائية لا يبدو أن جبهة غزة، بما لديها من إمكانيات تسليحية وقدرات قتالية متواضعة، توازي ما لدى الجبهة الشمالية بعاصمتيها في دمشق وبيروت، وخلفهما طهران، مما يجعل الجهد الإسرائيلي الذي قد يوجه للأولى أخف كثيرا، وبأضعاف عديدة، مما قد تدخره إسرائيل للثانية، الأمر الذي قد لا يعني وجود تعارض في بقاء الاستنفار الإسرائيلي في ذروته باتجاه الشمال، مع إمكانية إجراء استدارة اضطرارية نحو الجنوب، أي غزة.
أكثر من ذلك، فإن الترتيبات السياسية والعسكرية التي تجريها تل أبيب بشأن الجبهة الشمالية مع موسكو وواشنطن وعمان، لإبعاد التواجد الإيراني عن حدودها، واستمرار منحها الضوء الأخضر بضرب القوافل التسليحية المتوجهة من سوريا إلى لبنان، قد تمنح صانع القرار السياسي والعسكري الإسرائيلي نوعا من الاطمئنان النسبي تجاه التطورات الشمالية، مع بقاء الرصاصة في بيت النار، واليد ضاغطة على الزناد، إن دعت الحاجة.
في الوقت ذاته، فإن مثل هذه الترتيبات الناشئة في الجبهة الشمالية بحضور دول عظمى، ليست قائمة مع الجبهة الجنوبية، في ظل تآكل حالة الردع التي حققها الجيش الإسرائيلي خلال السنوات الأربع الماضية، وزيادة الدعوات الإسرائيلية من داخل الائتلاف الحكومي والمعارضة على حد سواء، فضلا عن استطلاعات الرأي المتزايدة، المطالبة بوضع حد لما يعتبرونه استنزافا فلسطينيا في الخاصرة الجنوبية الضعيفة لإسرائيل المسماة غلاف غزة.