حالتان طبعتا المشهد الفلسطيني عشية جولة كوشنر وغرينبلات الترويجية لـ"صفقة القرن" التصفوية. ما شهدته ساحة المنارة في رام الله، حيث قمعت أجهزة سلطتها بعسف مقصود تظاهرة المحتجين المطالبين برفع عقوباتها التجويعية عن غزة وصرف رواتب موظَّفيها. في هذا الجزء من هذا المشهد كانت الهوة بين القامع والمقموع يعبِّر عنهما تصريحان، واحد لمسؤول والآخر لرجل دين مسيحي. الأول، هو محافظ نابلس المحتلة اللواء أكرم الرجوب، والذي قال متوعِّدا المتظاهرين بعاميّته الخاصة: "اللي بدو يتطاول بدنا نلعن أبوه"، وزاد مؤكِّدا: "اللي بدو يخرج عن النص بنلُقَّه على ثمه"، أي نلطمه على فمه! والثاني، للآب مانويل مسلَّم، عضو الهيئة الإسلامية المسيحية فيما يتضح أنه كان ردا منه على الرجوب: "نحن شعب أدبتنا الرشاشات فأصبحنا ثوَّارا، ولم تؤدبنا مفاوضات أوسلو وتنسيقها الأمني، وإن كانت عنتريات فلتكن على المستوطنين في نابلس والضفة".
والوجه الثاني، انتباه العالم المفاجئ إلى أن غزة في سبيلها للانفجار في وجه الجميع، احتلالا، وسلطةً، وعربا، ويتعداهم لسائر من ستطوله تداعيات هذا الانفجار إقليميا ودوليا. الأمين العام للأمم المتحدة حذَّر هؤلاء من أن غزة على شفير حرب، مطالبا السلطة إلغاء معاقبتها غزة ودفع رواتب موظفيها. المفارقة أن غزة محاصرة ومجوَّعة منذ 12 عاما، وصحيح أن مأساوية الوضع الإنساني فيها الآن بلغت ما لا يمكن تخيُّل احتماله، إلا أن هذه الانتباهة مردَّها المستجد النضالي الغزي وليس المأساوية التي امتد بها الزمن.
هذا المستجد بات الشغل الشاغل في الكيان الاحتلالي، ساسة، وعسكريين، وإعلاما، وآهلي المحاذي لغزة من مستعمرات. مسيرات العودة وابتكاراتها النضالية، والتي وصفتها صحيفة "هآرتس" بالعبقرية، أربكتهم وأزَّمتهم، وبلوغ القوة حدودها في مواجهة جبروت الإرادة العزلاء إلا من إيمانها بقضيتها أرعبهم، وولولة مستعمري ما يدعونه "حزام غزة" من أن الغزيين يخصونهم ليلا بالصواريخ ونهارا بالطائرات الورقية الحارقة أفقدتهم صوابهم. يحصون أربعمئة حريق حتى الآن، واحتراق 3500 دونم من مزروعات مستعمراتهم. تقنياتهم المتطورة و"قبتهم الحديدية" وطائراتهم المسيَّرة عاجزة عن صد طائرات غزة الورقية، والشركات الألمانية والفرنسية المشاركة في تسوير غزة وعزلها عن فلسطين المحتلة لم تتمكن بعد من إكمال ما هو غير الضامن لعزلها. ثم إن قرار المقاومة "القصف بالقصف" كسر قواعد الاشتباك فباتت المبادرة في يدها، وبات معلقوهم يحذرون من جرِّهم لحرب لا يحتملها مستعمروهم.
المشهدان الفلسطينيان، ما أشار إليه الأب إمانويل في الضفة وما اعترفت بعبقريته "هآرتس" في غزة، هما وراء تحريك المحتلين لإنسانية الغرب من غفوتها، وشحذ همم جانحي عرب مسالمتهم والتخادم معهم، بغية مسخ الصراع مع غزة بمقاربته تحت لافتة التخفيف من كارثية الحالة الإنسانية هناك، والتي هؤلاء ومعهم الأوسلويون مشاركون في جريمتها بحصار القطاع المزمن…لكنما دون التخلي عن جوهر مقولة نفتالي بينت وزير التعليم في حكومة الاحتلال وزعيم حزب "البيت اليهودي": "لا مكان للوجبات المجانية للعدو المقيم في غزة"، أي الولوج من بوابة إنسانيتهم الزائفة إلى تصفية القضية الفلسطينية وفق الرؤية النتنياهوية بمسماها الترامبي "صفقة القرن".
وعليه، أرسلت واشنطن مؤخرا متعهدي بازارها الصهيونيين، صهر ترامب ومستشاره كوشنر ومبعوثه للمنطقة جرينبلات، في جولتهما الترويجية على اربع عواصم عربية والكيان الغاصب، رافعين لافتة بحث التخفيف من معاناة غزة مدخلا لطرح الصفقة، هذه التي يشيعون بأنهم قد اقتربوا من وضع لمساتهم الأخيرة عليها وإنها أخيرا قد شارفت على الاكتمال.
حفل إعلام المحتلين بتسريبات يراد لها أن تسهم في جلاء بعض طلاسم هذه الصفقة. قالت "هآرتس" قبيل قدوم مروِّجيها المجتهدين، أن من بين مهامها، "جمع نصف مليار دولار لإطلاق مشاريع تمنع الانهيار في غزة، وتمهِّد لصفقة القرن"، هي عبارة عن بنى تحتية تقام في شمال سيناء المصرية، وعددت: ميناء بحري، منطقة صناعية، منشأة تحلية مياه، مصانع مواد بناء، ومحطة طاقة شمسية…ومن لا تسعفه الذاكرة نعيده لمشروع الجنرال يوآف مردخاي، الذي طرحه العام الماضي ورفضته السلطة المستثناة من جدول الجولة الترويجية، ومصر التي يُعوَّل عليها الجائلان لتمرير الصفقة والمشروع الممهِّد لها والذي لن يكون بلا موافقتها.
قطع المساعدات عن السلطة والأونروا، وتصريحات نتنياهو من عمَّان حول بقاء الرعاية الهاشمية للأماكن المقدَّسة في القدس، هو للضغط على السلطة للعودة عن قرار رفضها التعامل مع الصفقة إثر نقل السفارة الأميركية للقدس، وجزرة تسريبات لطمأنتها لاستدراجها بأن ما سيطرح هو "خطة سلام" على أساس تفاوضي وليس حلا مفروضا، وإن أبو مازن هو المحاور الفلسطيني الوحيد ولا نية لتجاوزه، أي ترك الباب مواربا لتمكينه من التخلي عن مقاطعة لم تمنعه من إبقاء صلة وصل سرية طرفاها ماجد فرج وبومبيو!
هناك ما يشي بمخطط يمهِّد لإلحاق غزة بمصر وبقايا الضفة بالأردن، وإذ القدس قدِّمت لنتنياهو، فالاعتراف بـ"يهودية الدولة" يتكفَّل بشطب حق العودة.. مخطط، قمع متظاهري المنارة، وعنترية الرجوب، ومواصلة معاقبة غزة، موضوعيًّا تعني ملاقاته.. لكنما هي صفقة لن تمرّ، واسألوا شعب الأب مانويل مسلَّم.