فلسطين أون لاين

في حياة الزوجين اللهوانيين "طنطيش"

الحُبّ حتى الثّمانين

...
بيت لاهيا - حنان مطير

في تلك الساحة من البيت الواقع في بلدة بيت لاهيا شمال قطاع غزّة، جلستُ على فَرشةٍ إسفنجيّة ألقَتها على الأرضِ الحاجةُ فاطمة طنطيش "أم زاهر" ذات البشرة السمراء والشعر البرتقاليّ، فكانت كلّما رفعت شاشتها البيضاء لتعديل غطاء رأسِها سطَعت أشعة الشمس تحته ولمعت في غُرّتها.

"شو هالشعرات الحلوين يا حجتي"؟ سألتها مُداعِبةً لاتخاذ مجرى لطيفاً للحديث، فتزيّن وجهُها بابتسامةٍ هادئةٍ كشفت عن قاطعين علويين مفترقين وبضعة أسنان مخلوعة، وردّت :" عند أقاربنا عرس، والشعر كله أبيض، والحنّة يا بنتي زينتنا من أيام زمان".

"دعينا إذن نتحدّث عن أيام زمان، فتلك الأحاديث تستهويني كثيراً".. ردّت وما تزال ابتسامتها توشحها :"80 سنة شو بدنا نحكي "تنحكي يا بنتي؟" أخفضت رأسها لتلملم بعض حبات شعير وضعتها في حِجرها، ثم ناولتها لابنتها ماجدة (44 عاماً) وطلبت منها أن تنثرها عند الدجاجات، فلبّت بهدوء.

في كل ليلةٍ من ليالي عام 1955 كان السّراج الزجاجي ذي الفتيل المغموس بالكاز يضيء وسط العتمة، فينير غرفة الطين الخاصة بـِابن السنة الأولى من المرحلة الثانوية"رزق طنطيش"، زوجها الذيبات أمر تعليمِه مسئوليةً كبيرةً على عاتقه لابد من القيام بها على أكمل وجه – أم زاهر تروي-.

وتقول: "تزوجت أبا زاهر في عمر السادس عشر، كنت أنظف (لمبة الكاز) حتى تصبح برّاقة، وأجفّفها، ثم أشعلها بعود كبريت وأذهب بها إليه".. بات التعليم آنذاك نادراً ويا لحظ من يغتنمه، فكانت أم زاهر تهيئ له كل أجواء الدراسة ليصبح مُعلِّماً للغة العربية.

وتضيف: "أقدّم له صينية العَشاء وعلى لساني الكلمة المعتادة (تفضل يا ابن عم)، فيترك كتابه ودراسته ويبتسم، ويطلب مني أن أجاوره الجِلسة قليلاً، ليخفف عن حاله عناء الدّراسة المتواصلة ويستأنس بوجودي شيئاً".

تصف المشهد: "قبل أن ألبي طلبَه أسمع كَفَيِّ حماتي يضربان ببعضهما ويصلني صوتها عالياً وهي تُردّد: "راحت عنده بنت رشيد، والله ما راح ينجح السنة!"، فأرتبك وأتركه كما لو أنني مذنبة".

عمل شاق

أم زاهر أمضت حياتها في الحقول والمزارع مُذ لفظتها الدّنيا على هذه الأرض، لم توفّر جهدا في العمل، عاشت مُزارعةً تهتم بالأرض من ألفِها ليائها، فتعلّقت فيها وباتت جزءًا منها رغم التعب والمعاناة والإرهاق الذي لم يكن لينتهي يوماً، لكن كلّ سنوات عمرها الشاقّة وصحتها التي ضعفت شيئاً فشيئاً لم تذهب هباءً -وفق قولها- فتعلق: "أبنائي، وحسن أخلاقهم ورجاحة عقلهم هي رصيدي في الحياة، إنهم يفتخرون بي ويكنّون لي كل الاحترام والامتنان".

أنهى أبو زاهر دراسة المرحلة الثانوية، ثم سافر مصرَ ليكمل دراستَه، ليصله الخبر السارّ بأن زوجته حامل، مرّت الأيام والشهور، وجاءها المخاض فاطمةٌ، تصف وقد بدت من حركةِ يديها ونبرة حديثِها أنها تقارن بين نساء اليوم والأمس:" يوم أنجبت زاهر كنت راكبة على (تندة الشّحن) في الطريق لغزّة من أجل بيع التفاح اللهواني" بعد أن قطفته وجمّعته في السِلال". وتصف التفاح: "يامحلاه" نصفه أخضر ونصف أحمر ورائحته نفاذة".

طفلة ثم زوجة

أما عن حياتها اليومية فكانت متعبة للغاية وفيها العمل لا ينتهي، توضّح:" قبل بلوغ الخامسة عشر كانت مهمتي بسيطة أهمها النّطْر على التلّة وحراسة مزارعنا بصحبة الجارات وبنات العم، ثم في الخامسة عشر، بدأت أقوم بما تقوم به النساء، فأحمل السلال الكبيرةعلى رأسي وبداخلها السلال الصغيرة المملوءة بالثمار الطازجة والمربّطة بإحكامٍ بعيدان نبات الهيش".

وتضيف: "كنا نخرج من بيت لاهيا الثالثة فجراً أو قبل ذلك، لنصل إلى سوق (فراس) في غزة قرابة السادسة صباحاً، نسير على أقدامِنا فنقطع سوافي الرمل ونتخطّى التّلال، والسّلال تضغط فوق رؤوسِنا، وبين وقتٍ وآخر نأخذ قسطاً قليلاً من الراحة، أما إن خرجنا بحدود الرابعة فجراً فإننا لا نتوقّف لنرتاح أبداً، بل نستمر في السير على نفسٍ واحد لئلا نتأخر، ونخسر بيع بضاعتِنا".

وتتبع: "حين نصل إلى السوق منهكين، نُنزل السلال عن رؤوسنا ونرتبها ونجلس القرفصاء غالبية الوقت، تلك الجلسة المُتعِبة، خاصة في فصل الشتاء حيث تكون الأرض مغموسةً بالماء، فلا نستطيع الجلوس على الأرض".

وتوضح أنه في حدود الساعة الثانية عشر تنفذ البضاعةُ وينتهي البيع، فيكافئن أنفسهنّ بشراء قليل من حلوى "النّمورة" من أحد الباعة في غزّة، ثم تعود الفلّاحاتُ أدراجهنّ خفيفاتٍ بسلالهنّ الفارغة، يقطعن نفس السّوافي والتلال، حيث الشمس عمودية تصبّ في الرؤوس وتغلي في الرّمال، التي تحشر حبيباتِها في أحذيتهنّ فتسلعهن وقد أسمتها أم زاهر "السُّمِّيطة"..

أم زاهر كانت تتمنّى أن تحصل على فرصةٍ للتعليم الذي بدأ ينتشر بعد الهجرة عام 1948، لكنها لم تملك أن تحصل عليه، إذ كان ردّ أخاها الأكبر آنذاك بحنوّ ومحبّة:" لن يفيدك التعليم يا فاطمة، وأن تجلبي الحليب يومياً أفضل لك ولنا".

لكن تلك الفرصة حظى بها أبو زاهر فذُلّلت له كل العقبات ليكون مدرس لغةٍ عربية وفلاحاً أيضاً يفتخر به الطلابُ وأهلُه .

بين الحقول والمزارع

استقللتُ سيارةً برفقته وزوجِه وابنتِه ماجدة وانطلقنا عبر الشوارع الترابية إلى أقصى الشَّمال حيث تنتشر المزارع عن اليمين وعن الشمال، وتعمّ السكينةُ والهدوء، فتداعب وجوهَنا النسمات المتدافعة من نافذة السيارة المُسرعة وقد اختلطت برائحة زهور الليمون والفلّ والياسمين مُعلنةً قدوم فصل الجَمال والخُضرة.

جلس أبو زاهر في المقعد الأماميّ بعد أن اطمّانّ على أم زاهر التي يصعب عليها ركوب السيارة بسهولة، وتأكّد من راحةِ جِلستِها، فعملها الشاق طوال حياتِها أنهَك صحّتها وأتعب مفاصِلها لكثرة ما كانت تحمل أحمالاً ثقيلةً في رحلةِ ذهابِها إلى السوق، إلى جانب قطف الثمار الأرضية التي تضطر فيها لخفض جسدها، وكذلك تجميع الأحطاب ونقلها، وغيرها من الأعمال، فأجرت الكثير من العمليات الجراحية من بينها تركيب ركبتين صناعيتين، وفق حديثها.

أسعدني مشهدُ أبي زاهر فقد بدا لي صاحب قلبٍ كبير، فسألتُه حينها بنبرةٍ مازِحة عمّ تعني له زوجتُه، فابتسم ابتسامةً واسعةً والتفتّ إليّ في الكرسي الخلفيّ وردّ باندفاعٍ: "أم زاهر في القلب من جُوّا، هي اللي مْحلية حياتي"، ابتسمتُ بعمقٍ وابتسمت هي الأخرى، وربتت على كتفِه وهي التي تجلس خلفَه مباشرةً، ثم ردّت عليه: "يا راس قلبي، يا عينيّ التنتين أنت"، فامتلأت السيّارةُ بضحكاتِنا.

لقد بدا حبّهُما عفوياً صريحاً لم يُقيّده شارعٌ عامٌ ولا سائق تاكسي غريب ولا صحفيةٌ لأول مرةٍ يتعاملان معها.

وصلنا إلى أرض عائلة "أبو زاهر" فكانت السواقي ترشّ مياهها الحلوة على الأشتال الخضراء والأوراق الطريّة، فيُلامِس وجوهَنا بعض رذاذِها اللطيف فتنعشني تحت أشعة الشمس الحامية، وفيما راح أبو زاهر يستظل على كرسيّه بظل شجرة، تقدّمَتْ إليه أم زاهر وجلست بجانبِه فكانت فرصتي لالتقاط أجمل الصور لهما وهو يقول:" أرضنا كنزنا وروحُنا فهي التي تربط أرواحَنا ببعضها لأن كل رملةٍ وشجرةٍ وقطرة ماء فيها لا تعيش إلا مترابطة، إنها جزء من وجودِنا، وهي التي تعلّمنا الحب والتماسك، ومن يمتلك الأرضَ ثم يفقدها كمن فقد روحَه وحياتَه، لذلك فإنني أشارك في مسيرات العودة الكُبرى وإن كنت كبير السن وكانت أصولي تعود لبلدة بيت الأهل ولستُ من أصحاب القرى المهجّرة عام 1948، أما أم زاهر فقلبها هناك لكن صحتها لا تسمح لها بالمشاركة، فنحن فلسطينيان ونشعر بحجم الأسى والظلم الذي يعيشه اللاجئ بسلب أرضِه".

لم يقبل أبو زاهر بصورةٍ تقليديّة فلفّ ذراعَه على ظهرِها فيما هي أسندَت ذراعها على ركبتِه ليبقى مشهدهما آخر ما التقطته عينايَ وكاميرتي، ثم تنتهي رحلتي وأعود لصحيفتي وأنا أكتب فيهما بعض الكلمات..

"هنا الحُبّ حتى الثّمانين.. يتغلغل في عمق البساتين.. بين ثنايا "شاشةٍ" بيضاء.. ولحية قصيرة.. في حفائف عباءةٍ سمراء وتحت حصيرة.. هنا الحب يتسلل على سطح كتفين شامخين.. على طول عكّازين وتحت قبعةٍ صغيرة.. هنا الحبّ يتدلّل في صبغةٍ حنّاء.. بين خصلات شعرها البرتقالية.. بين خيوط ثوب فلاحيّ مطرز بألوانٍ عنّابية.. هنا الحب غافٍ تحت كفّها .. كطفلةٍ في مهدِها".