مهما يكن تأثير الرد بالنيران المصبوبة على غزة ببعض مثلها؛ فإن الرد بحد ذاته يجعلنا قادرين على إيداع رصيد يتراكم، في بنك التاريخ، لضمان كرامة الفلسطينيين. فهذا الاحتلال البغيض، لا يحسب حساباً إلا للذين يردون عليه بشجاعة، في السياسة وفي الميدان. هو أولاً الذي يعتدي، وهو الذي يختلق أسبابه، للاعتداء. ولطالما في تاريخ الصراع ما جعل محض وجود وسائل الرد في أيدي ضحاياه، سبباً للتشكي والعدوان. ففي صيف العام 1970 كانت قضيته وزوبعته بعد التوصل الى اتفاق وقف النار على الجبهة المصرية، لمدة 90 يومياً، بموجب ما سُمي "مبادرة روجرز" على أن يُصار بعدها الى بدء مفاوضات برعاية الأمم المتحدة، لتطبيق قرارات الشرعية الدولية، أن المصريين بدؤوا على أرضهم بناء حائط الصواريخ المضادة للطائرات. ولم تكن المسألة في تفكير العدو، أن تمتنع الطائرات عن اختراق الأجواء المصرية، وإنما ألا تكون مصر قادرة على التصدي لها. فالعدو لا يقبل أن يمتنع عن العدوان وبالتالي لا يكون هناك رد، وإنما يريد أن يعتدي وأن نكتفي نحن بالدعاء والإدانة والترحم على الضحايا. أيامها، استخف جمال عبد الناصر بالزوبعة الإسرائيلية، وشرح اختلال منطقها لزائريه الدوليين قبل أن يغادر الدنيا. سقطت مبادرة وليم روجرز وزير الخارجية الأمريكي في فبراير 1971 وكان حائط الصواريخ جاهزاً، ودخلنا في مرحلة بغيضة سُميت "اللا سلم واللا حرب" واشتغل رسامو الكاريكاتير المصريون، على تصوير الحال: محتل يجثم مسترخياً على أرض عربية، وعلى الإنسان فيها، ويدخن السيجار، ويقول نحن في حال اللا سلم واللاحرب، وهذا ما نريد. فقد كانت (اسرائيل) امتنعت عن بدء مفاوضات للجلاء عن جميع الأراضي المحتلة. ولولا أن جمال عبد الناصر، الذي رحل في أواخر سبتمبر 1970 استخف بمطلب الاحتلال وأصر على رفضه، لما كانت سيناء الآن في أيدي المصريين!
اليوم، لا يريد الاحتلال أن ترابط في جواره على الجانب السوري من الحدود، أية قوة مسلحة مستعدة للاشتباك معه. بل هو يرى سوريا كلها حدود، ويريد إخلاءها، مستفيداً من الصراع الإقليمي بين القوى التي لا تخلو من مقاصد الهيمنة، لكي يصبح صوته هو الأعلى، طلباً لغياب كل الأطراف التي يمكن أن ترد عليه عندما يعتدي.. وهو يعتدي في كل يوم!
في غزة الضيقة المتعبة، التي يرميها العدو والشقيق عن قوس واحدة، توجد قوة مقاومة يريد الشقيق والعدو أيضاً نزع سلاحها، على الرغم من تواضع أمرها بالمعيار الاستراتيجي. على الرغم من ذلك، تثار الزوبعة على السلاح في غزة، من أفواه، يصطف لأجلها بعض الشقيق وكل العدو، بينما غزة تختزن في ذاكرتها كل لقطات المحتلين وهم يعربدون ويذبحون الناس الآمنين الذين لم يحملوا سلاحاً قط، مثلما فعلوا في خان يونس في نوفمبر العام 1956 ومثلما يفعلون اليوم في الضفة، في المنزل كله الذي فيه شاب محسوب على المقاومة. ينسفونه ويبيت الأهل في العراء ويقتلون من يتحرك. وكلما كانت هناك بندقية واحدة موجودة، لتقاوم الجبناء، فإن النتيجة لن تكون مأساوية تماماً في ناظر هذا العالم الذي لا يكترث لمآسينا، وإن كان في بعض الأحيان، ينتقد "الإفراط" في استخدام القوة، لأن المسموح هو "الاعتدال" على بشاعته!
طائرات الاحتلال تقصف، والجنود لا يجرؤون. فما أشجع الجنود، لو لم تكن هناك مقاومة. عندئذٍ، لن يتخفف واحدهم من نظاراته الشمسية، وسيقتل بدم بارد. إن العدو الآن، يقصف في كل يوم، لكن المقاومة ترد!