بعد رحلاتٍ متعددة لم يستطع أن يصف جمال بلاده في ثمانية وعشرين حرفًا، فمن وجهة نظره أن محاولات الشعراء قبله باءت بالفشل، لذا أوقف كل محاولاته وقرر أن يستمتع بـ"طلات" بلاده البهية التي حُرم وأهله منها، ولكن بقي شيء واحد يشغل تفكيره، "يا تُرى معقول أجدادنا لم يكن بوسعهم أن يذرفوا نفسا آخر في الدفاع عن البلاد؟، شو رمانا بعيدًا عن بلادنا وأصبحنا نتذوق مرارة البعد عنها؟"، فتولدت طاقة الشغف بداخله ليتعرف على بلاده المحروم منها، ليصبح "ابن بطوطة فلسطين".
معتصم عليوي شاب فلسطيني لم يتجاوز عمره ٢٦ عامًا، درس في الأردن، ومن ثم عاد إلى فلسطين؛ يسرد لقراء صحيفة "فلسطين" تجربته في الترحال.
رحلة الأيام الستة
قبل عامين، وبالتحديد في 22 من شهر تموز/ مايو، كان الحدث الأليم، عندما قررَ زيارة أهله في مدينة نابلس، لعمل مفاجأة لهم وقضاء ما تبقى من شهر رمضان المبارك وعيد الفطر، فكان قلبه يرفرف ليتنسم من هوائها ويلامس ترابها، وبمجرد أن تخطت قدمه الجانب الفلسطيني حيث الحاجز الاسرائيلي والحدود التي تفصل بين فلسطين والأردن تم اعتقاله وتحويله لمركز التحقيق لمدة 58 يومًا.
"طيلة هذه المدة لم توجه لي أي تهمة، فقط أسئلة سخيفة تنم عن حالة الرعب القائمة في نفوس الاحتلال والمزروعة في عقولهم تجاه أي فلسطيني ، ولكن لم يقتصر الأمر على ذلك؛ فقد وُجهت لي تهديدات واضحة بمنعي من السفر، وبالتالي كنت مهدداً بخسارة عملي في عمان، وسيقتلني الملل في نابلس، وبسماعي هذه الكلمات وكأن نارًا أُشعلت في صدري؛ وأسئلةٌ تطرق عقلي: أيقتلني الملل وأنا في بلادي؟".
ومن هنا بدأت القصة، حيث قرر في ذات اليوم الذي اعتقل فيه أن يدخل الحدود الوهمية بين الضفة الغربية وأراضي الـ48 المحتلة بشكلٍ غير قانوني، ليزور بلاده التي لم ترها عينه كالقدس ويافا وحيفا وعكا وطبريا وغيرها الكثير من الأماكن، متحديًا في ذلك ما قاله له المحقق "راح تزهق حالك".
ورغم أن الداخل المحتل من أكثر الأماكن حراسة وتشديدا أمنيًا، إلا أنه انطلق بصحبة صديقه "نبيل" حتى وصلا إلى رام الله فبدلا شريحة الجوال بأخرى تابعة للشركات الاسرائيلية حتى لا يقعا تحت مراقبتهم، وعندما وصلا لحاجز قلنديا تصادفا مع مُهرب فاتفقا معه أن يدخلهما القدس مقابل 50 شيكلا، ركبا سيارته الصغيرة وانطلقت وأخذ قلباهما يخفقان بشكلٍ أكبر؛ كلما اقتربا من جدار الفصل العنصري؛ يقول بتلقائية: "كان نصفه خوفا ونصفه ولعا وشوقا لريحة البلاد".
وصل عليوي وصديقه وصعدا على السلم، ونزلا عن الحبل ولثقل الحمل على ظهره فقد تمسك بيديه وأسنانه، فجرحت يده، وقبل أن يصل نبيل للأرض وقع وأصيبت يده وساقه، فلم يلتفت لما حدث له لشعوره بحنية أرضه، وكأنما وقع في حضن أمه.
في هذه اللحظة كان عليهما أن يسابقا الزمن في التفكير، فقطعا حالة "السرحان والانبهار" وقررا تقمص شخصيات سياح من كندا حتى انتهاء الرحلة، موجهين بوصلتهما إلى القدس فكان لهما صديق هناك هو "الحيلة والفتيلة" كما وصفه؛ وبمساعدته تنقلا وتعرفا على بعض الأماكن واشتريا اسعافا أوليا لتنظيف جروح نبيل.
وبتنهيدة طويلة يكمل عليوي: "انطلقنا إلى يافا الفاتنة صاحبة الشاطئ الذي لا يهدأ وصوت البحر الهادر، والمسجد الصادح بالأذان، والشفق الأحمر بالأفق، وزرنا المسجد العجمي والكنيسة التي تحولت إلى فندق، ونصبا خيمتهما على شاطئ يافا رغم أننا لم ننم ليلتها بسبب الناموس، فشاطئ يافا ممتلئ بالعشب الأخضر ولكنها من أجمل ليالي عمري".
هذه المرة عكا
"وين يا مسهل؟ تساءل نبيل ليجيبه معتصم "المجنون": "إلى حيفا إن شاء الله"، ولكن صديقة أمريكية قد حذرتهما من الشرطة هناك بأنهم دهاة ومن الممكن أن يكشفوا هويتهما، وبالفعل بمجرد وصولهما "للشط الحيفاوي" شكّوا فيهما، ولكنهما استطاعا اقناعهم بأنهما قد نسيا جوازات سفرهما بالفندق وأتيا إلى هنا للتخييم، فاقتنعوا بروايتهما بسبب شنط التخييم والعدة المحملة على أكتافهما، وانتهت القصة بسلام، واضطرا لمغادرة حيفا قبل أن يقعا في قبضتهم مرة ثانية.
ويستذكر عليوي أنه في أول مرة عندما أمسكتهما الشرطة قال لنبيل: "إذا رجعونا على رام الله راح نرجع ننط ثاني، ونكمل الرحلة"، وزارا في حيفا حدائق البهائيين، "ثم شاء القدر أن يقعا في حب عكا، فالتهويد فيها ليس كبيراً، بل هي عربية بكل معنى الكلمة، رائحتها وبساطتها ومبانيها القديمة، بحثنا عن مكان ننام فيه وبعد ساعتين وجدنا شاطئا خاليا لننام فيه بعد يومين من الرحلة".
أما نسيم فجر عكا الذي لامس جسديهما أنعشهما، إلا أن ما عكر صفو جوهما دورية من الشرطة طلبت منهما إغلاق الخيمة، وطلبت منهما جوزات سفرهما، أما نبيل فأعطاهم جواز سفره، بينما هو ادعى أنه يفتش عن جوازه، ثم عدلوا عن فكرة تفحصه؛ ليشعر مرةً أخرى بنشوة الانتصار".
وتابع عليوي حديثه: "عكا الحب والجمال بذاته، ويتلخص ذلك في كل صخرة من صخور أسوار عكا المنيعة فهي المدينة الوحيدة التي لم يستطع نابليون دخولها، ومن ثم كانت وجهتنا إلى حيفا، وعبر محطة الباصات ذهبنا إلى العفولة ثم كفر قنا، ومن ثم طبريا التي لم أستطع فيها تمالك دموعي لطبيعتها الخيالية ومنظرها الجمالي وخاصة عندما تستفيق من صدمتك وتتذكر أنك محروم من هذه الأرض، وذهبنا لزيارة القدس قبل عودتنا لنابلس".
وفي هذه الرحلة التي استمرت ستة أيام مشيًا من يافا حتى طبريا، حمل همومه وأشواقه وذكريات بلادة الجميلة، وعاش فيها أجمل أيام حياته كما وصفها أنسته 58 يومًا من التحقيق، ورغم قلة معرفتهما ببلادهم إلا أن شغفهما لمعرفة المزيد دفعهما لعيش مغامرةٍ بطريقة غير قانونية، ومع ذلك كان شعوراً لا يمكن وصفه لفرط روعته".
استكشاف الأرض
عليوي الذي أنهى دراسة الهندسة الميكانيكية في عمان ثم قرر العمل في الترحال والسفر ليتعرف على بلاده، وقضاء بعض الوقت الممتع في الطبيعة، اكتشف أن هوايته التخييم في الجبال، واستكشاف فلسطين أكثر، خصوصًا أنه قضى ١٨ عامًا فيها قبل سفره للدراسة، ولم يخرج من نابلس إلا مرة واحدة، وليس لديه أي معرفة بفلسطين سوى ما يراه على التلفاز.
كان قبل عودته لزيارة أهله، ذهب في رحلة بالأردن استمرت 13 يومًا، من إربد إلى العقبة مع صديق له، ولم تتجاوز تكلفتها 70 دينارا للشخص، ولكن أطول رحلة له استمرت 30 يومًا من جنين حتى الخليل مشيًا.
وحسب قناعاته أنه ليس هناك أسلوب مفروض على الإنسان للعيش فيه، "ولكن نحن نفرض على أنفسنا ما نريد، فأنا اخترت أن أحرر نفسي وأطلقها في الجبال بدلا من قضاء حياتي بين الجدران والمكاتب".
ويرى أن للترحال أهمية لاستكشاف البلاد قبل الحديث عن التحرير والمقاومة لمعرفة طبيعة الأرض وتضاريسها، خاصة أنه لا يكلف الكثير؛ موضحاً فكرته: "حين تنام بالكهوف، أو البيوت المهجورة وبين الأشجار، وتأكل منها، وتعيش الحياة ببساطتها وجمالها، والقضاء على فوبيا الاحتلال، وتنشر ثقافة الترحال واستكشاف فلسطين، والاحتكاك بأهل القرى والمخيمات؛ كل ذلك من الجيد أن يجربه المرء".
"أحب الأماكن القديمة وعلى هذا الأساس أختار الأماكن، بالإضافة إلى نوعية المكان وبعده عن المستوطنات وطبيعة أهله"، حسب قول عليوي وعلى هذا الأساس يتم اختيار المكان وكل ما عليه هو أن يدرس المنطقة، ويعرف نقاط التخييم، ولكن رحلته لا تخلو من نفس المغامرة والعقبات التي تتمثل في وجود الاحتلال وخطورة الطرق، وعدم التمكن من حمل أدوات الترحال مثل السكين لإمكانية التعرض للاعتقال.
وأراد عليوي أن يحمل في جعبته الملقاة على عاتقه رسالة، وهي أن يعرف ويُعرّف الآخرين على كل شبر في فلسطين، وأن يُعرّف العالم على بلاده المسلوبة، وختم بالحديث عن طموحاته بأن يصل إلى قمة إيفرست ويتسلق أعلى سبعة جبال في العالم.