فلسطين أون لاين

​شكرًا لمن عطّر عمري بمِسكِ أُبوّتِه

...
مدير مكتب قناة القدس الفضائية في غزة الإعلامي عماد الإفرنجي
غزة - حنان مطير

كرائحة زهور "ليلة القدرِ" تفوح في الذاكرة، حين تتنسّم فيها كلماتُه الرّزينة، أو كقطرةِ النّدى، تنسدلُ على ورقة الشَّجر فتستقرّ في طرفِها ولا تسقُط، كذلك هي ذكرى الأب الحنون حين تمرّ في قلبِ الابن الممنون.

الإعلامي عماد الإفرنجي مدير مكتب فضائية القدس في غزّة هو ضيف "فلسطين" في زاوية أهل الفضل، فهو ذلك الرجل الممنون، وهنا يبوح بفضل والده عليه، ولا يزال طيفُه يدور حواليه، فتلمعُ عينُه متى ذُكِرت حكايتُه.

كان والدُه "أبو عماد الإفرنجي" يمتلك كنزًا من "البساطة" تفوق بقيمتِها غِنَى الملوك، فعمل منذ شبابِه مُصلِحًا "لـبوابير" الكاز، وبعدد عيون تلك "البوابير" التي أصلحها امتلك عيونًا من الخير حادّةً قطع فيها بين الحقّ والباطِل، فالتصق بالأول وحارب الآخر، ليعيش حياتَه ويفارقها مكسوًّا بثوب الطّهرِ والنّقاء الذي انعكس محبًة على قلب كلّ من عرفه، وفق الإفرنجي.

ويروي لـ"فلسطين" مفتخرًا بوالدِه الذي أكرمه الله به ليكون قدوةً ومثلًا يَحتذي بهِ، وقنديلًا ينير طريق حياته: "لم يمرّ في حياتي رجلٌ يؤثر الآخرين على نفسِه مثل ما كان أبي، فهو لم يفعل لحياتِه الدّنيوية شيئًا، كان ينفق على عائلته كلّ ما يملك، حتى ابنة أخته التي عاشت برفقة والديه كان متكفلًا بكل مصاريفها، فكبرت وظلّ اسمه يتردّد على لسانِها بكل خير".

كان كنزُه "الجنّة"، وطريقه إليها "ابتسامة" لا تفارق محيّاه، و"صلاة" تشع في جبينِه نورًا وحياة، يعلّق الإفرنجي: "الذّكرُ لم يكن يفارقه دقيقة، أما صلاة الفجر في المسجد وباقي الصلوات فلم يتركها إلا بعد أن يبست عضلاتُه بعد عدوان 2014م على غزّة الذي أوقف الحياة فيها 51 يومًا".

وللحاج أبي عماد طقوسٌ كانت مميّزة ولا تفارقُه، ما خلق في حياتِه البسيطة متعةً وجمالًا، يقول: "كان ينام مبكرًا ويستيقظ قبل الفجر بما يقارب الساعتين، يعدّ فنجان قهوته بهدوءٍ فتملأ رائحتها البيت، يحتسيها وذكر الله لا يفارق لسانَه، ثم يتبع الذّكر بصلاة النوافل، قبل أن ينطلق إلى صلاة الفجر في المسجد".

كان أبو عماد مشّاءً في الظُّلَمِ، يستند على عكّازه الخشبيّ بظهره المنحني، باغيًا صراطًا "مستقيمًا" لا ينحني، حتى إنّ الكلاب الضّالة لم تكن لتثنيه عن تلك الصلاة، وفقًا لما يسرد الإفرنجي، الذي يضيف: "هاجمته الكلاب يومًا وأسقطته أرضًا، حتى لطف الله به بأن لمحَه أحدُ روّاد المسجدِ فاعترض الكلاب وأنقذ والدي".

صعوبة مشيتِه لم توقفه يومًا عن صلة أرحامِه، فالابتسامة التي ترتسم على ملامحِ ابنته أو أختِه أو ابنة أخته أو غيرهنّ، والفرحة التي يشعرنَ بها بقدومِه، وأجواء المحبّة التي تظلل البيت كانت ذات قيمة عظيمة في قلبِه، فيصرّ على وصل أرحامِه، وإن كان على حسابِ جهدِه وصحّته، وفق وصف ضيفنا، الذي يتابع: "في كلّ زوايا حياتِه أخلاق تجعلني ممتنًّا لله أنني وُلِدت ابنًا لهذا الرجل الأميّ البسيط".

ذلك الأميّ قراءةً وكتابةً عالِمٌ في الحكمةِ والفضيلة والأمانة، "فكان في عمله مصلّحًا "للبوابير" يكتب اسم كل صاحب بابورٍ عليه، فإن تأخّر صاحبُه عنه _ولو سنوات طِوالًا_ عاد ليجد "بابوره" محفوظًا على حِطّتِه، فتلك أمانةٌ لا مجال للتلاعب فيها" يضيف.

وفي الوقت الذي كان فيه أخوه مسافرًا كان حريصًا على الحفاظ على الغرفةِ الخاصة من أصغر قطعة حتى أكبر قطعة فيها، وكانت تأخذ حيّزًا من البيت هم بحاجةٍ إليه، فالأمانة حين تُردّ لصاحبِها لابد أن تكون على حالِها أو أفضل، تلك قناعاتُه التي لم يتعلّمها من كتابٍ، إنما من فطرةِ الإسلام التي ظلّت إلى آخر حياتِه تنبض في وريده.

الحاج أبو عماد امتلك قلبًا واسعًا لم يضِق من رحمة الله يومًا، حنونًا لم تُحجّره قسوة الزّمان قط، فيذكر ابنُه حكايةً في ذلك له: "في الانتفاضة الأولى عام 1987م وصل إلى والدي خبرٌ لم يكن صحيحًا، وهو استشهاد أخي سعد، وبالرغم من حبّه لنا جميعًا صبر صبرًا واضحًا، وكان الشهيد ابن جارنا وحيد أمّه، فانفجر والدي حينها بالبكاء لحال والديه اللذين فارقهما حبيبُهما الوحيد".

الصّبر ظلّ ملازمًا للحاج أبي عماد حتى في أحلك سنواتِ حياتِه، لقد توقّف عن الحركة وأمضى السنوات الثلاث الأخيرة من عمره ممدّدًا على السرير، يعلق: "كنت أخشى أن يفقد صبرَه؛ فالأمر لا يُحتمل".

ويقول: "رغم ذلك كان ثابتًا صابرًا والابتسامةُ والذّكر لا يفارقانه، حتى اختطفَه الموت واختطف معه قلبي، لقد ترك الحياة بوجهٍ يشعّ نورًا، بعد أن علّمني معنى "الإسلام" على حقيقته، ذلك الذي ينبع من القلب فينعكس على كل الجَوارح".

غاب أبو عماد كنسمة مساء لطيفة وأنشودة حبّ عذبة، فارق الحياة وكل من أحبوه حاملًا معه عمله الصّالح وخلقه القويم، وتاركًا خلفه الذّكرى الجميلة والكلمة الطيبة وطيف ابتسامةٍ يلوح في سماء الحيّ.