فلسطين أون لاين

​يا أجمل الأمهات "سعاد"

...
كتبها/ محمد فروانة:

لا زلتُ أذكر وشاحك الأبيض الذي كنت ترتدينه ليل نهار، هذا الوشاح تماماً كما لون قلبك، أتذكرين أول يوم دراسي لي؟ كيف كنت تمسكين بيدي بشدة حينها شعرت بأن خلفي جيشًا بأكمله يملك سلاحًا وعتادًا هو قلبك الأبيض يا أمي، مهما كتبت ومهما حاولت أن أكتب فلن أوفيك حقكِ، رسالة منّي أنا محمد فروانة إلى أمي رحمها الله سعاد فروانة... أما بعد :

أمي الفاضلة..

أسعد الله صباحكِ بكل خير، وقبلة على جبينك، وأخرى على يداك كما اعتدتُ أن أقبلكِ كل صباح... وكل رمضان وأنتِ في الجنة يا أمي.

في البداية أعتذر منكِ لأن هذه المساحة الصغيرة لا تتسع بالمطلق لأكتب عنكِ، وعند الأم تموت كل الكلمات! ولا أعرف عن ماذا أكتب فكل حروف اللغات لن توفيكِ حقك وفضلك الكبير علّي..

أمي الغالية، ومهجة قلبي منذ أن رحل أبي عن هذه الدنيا، أصبحتِ لنا السند والروُح وكل الأشياء الجميلة، كنا صغاراً تجرعنا مرارة الفقد منذ نعومة أظفارنا، لكن الهوان أحياناً كثيرة يكونُ على شكل قوة تماماً كما قلبك الذي تحمل كل هذا الألم.

حبيبتي، وليس لي حبيبة أستطيع أن أقول لها كل هذا الحديث مثلك أنتِ، كبرنا على يداكِ وصرنا شباباً، حين توفي والدي لم أتخيل أنكِ ستكملين الحياة معنا كأي أم توفي زوجها وترك لها طفلين، فأنتِ صبية جميلة، في مقتبل العمر، لكنكِ فاجأتنا بحضنك الدافئ الحنون الذي نمنا وكبرنا فيه دهراً طويلاً وعمراً ولم تتخلي عنّا!

يا أم الفضلاء...

تعلمنا منكِ الصبر، الصلاة، والحب، وكل لغات ومفاهيم الجمال، أتذكرين يا أمي دموع الفرح التي سالت من مقلتيكِ حين تخرجت من الجامعة، وأنتِ تحتضنينني وتقولين: "يا الله لهذا الفرح لو كان معنا أبيك؟"، كم كان سيفرح بتخرجك؟

أبي الذي عاش صابراً متحدياً المرض، ومُتِ وأنتِ ترتدين ثوب الحداد عليه! كيف لأمُ في العالم أن تفعل مثلما فعلتِ أنتِ؟ لا والله... لم أراك يوماً ترتدين الألوان الزاهية كأي أم ترتدي الأحمر والأزرق والمزركش في منزلها، حتى الثياب المصنوعة على شكل نصف كم لم أرها بالمطلق في خزانتكِ ولم ترتديها طوال حياتك!

يا حبيبتي... كان لكِ فضلُّ لا يقدر بثمن في طفولتي، ريعان شبابي، وفي كل محطات حياتي التي عشتها معك بحب، غمرتيني فيها بنبع من الحنان والعطف والمودة، وكنتِ مثالاً للأم التي لا تشبه أحدًا، والله لا تشبه أحد، في تعاملك مع الآخرين، في تعاملك معنا في بيتنا الصغير، في مناسباتنا، أفراحنا أتراحنا، يا أمي كنتِ تحبين إكرام الميت، وعندما يموت أحد من حارتنا تسألينني: "كيف دفنوه يا أمي؟ في قبر مفرد أم في "فسقية" (وهي المقبرة الجماعية التي اعتاد الناس دفن أقربائهم فيها في الماضي)، هل أحضروا طعاماً للناس في بيت العزاء؟ هل فتحوا بيت العزاء من الصباح أم اكتفوا بفتحه بعد العصر لسويعات قليلة فقط".

يا الله لو تدرين كيف أكرمك الله واصطفاكِ يا أمي... أكرمكِ بحسن الخاتمة وأنتِ عائدة من بيت الله الحرام كما ولدتكِ أمك الحبيبة رحمها الله، دون ذنوب، ووالله عشتُ معكِ ولم أرَ أي ذنب اقترفته في أي شيء حتى أن الناس كانوا يأتون لبيت العزاء ويقولون لي: "مبروك يا محمد، لا تحزن، افرح لحسن خاتمة أمك فــوالله لم تحدث إلا مع أناس معدودات في العالم".

يا أمي...

أتذكرين حينما كنتُ أتصل بكِ وأنا في العمل لأعرف ماذا أعددتِ لي من طعام اليوم وتقولين لي بأسلوب غير مكترث: "باقي طبخة البامية تبعت مبارح يمّا" وعندما أذهب للبيت أتفاجئ بالسفرة الجميلة التي أعددتها لي وفي منتصفها الأكلة التي أحب وهي "الفتة"!

يا أمي أنتِ سبب نجاحي وفرحي ومحبة الناس لي في هذه الحياة التي أصبحت مرّة بدونك.

قبل أن تموتين، كنت أنتظر عودتك من الحج بشغف لكي أخطب، لكنّ ذلك لم يحدث، إذ إن القدر سبقنا في ذلك، وأنتِ هناك أخبرت زملائي في العمل أن فرحي بحجك الذي انتظرته أحد عشر عاماً أجمل من يوم زفافي!

رحلتِ يا حبيبتي وبقيت كلماتك الرنانة التي قلتيها لي قبل أن تغادرين للحج بأيام تصدح في أذني: "نفسي أفرح عليك يمّا قبل ما أموت"، دونك يا جنتي أصبحت مكسور الخاطر.

يا أمي ذكرياتك في منزلي الصغير تحولت لنار تلتهم جسدي، كل زاوية في هذا المنزل تجعلني أضجُ بالحنين إليكِ، لرائحتك المخملية لصوتك الذي كان يملأ البيت حياة..

أحبتي..

لا تنسوها وأبي من دعواتكم في هذا الشهر الفضيل

أخوكم: محمد فروانة.