فلسطين أون لاين

أم يحيى أحيت "الإنسان" بقلب "زكريا" وأهدته التميّز

...
كتبت/ حنان مطير:

أن ترسم طريقَك امرأةٌ، فإنّك قد ملكتَ كل الفُرص لتقطف النجوم، وتُحلّق مع الفراشات حدّ الغيوم، وتتنسّم عبق العطور والبخور أو تعزف على سيقان الزهور.

لكن ليست كلّ النساء سواء، وليس أيّما امرأة يمكنها أن تصنع رجلًا عظيمًا، بل هي امرأة لا تشبهها الكثير من النّساء.

المصور التليفزيوني زكريا أبو هربيد هو ضيفنا الممتنّ في زاوية "أهل الفضل" لهذا اليوم، يروي لـ"فلسطين" حكايته مع رفيقة دربِه وأمّ أولاده "أمّ يحيى" التي أحيَت فيه "الإنسان" ومهّدت له الطريق وعبّدتها ليلمع اسمُه ويرتقي في توصيل رسالتِه للعالم.

فالشّغف "للصورةِ" في عينيه يستهويها، والنبضُ للتفاصيل في أوردتِه يرضيها، فتذوب في شغاف قلبِه حُبًّا وحنينًا.

كان يصوّر فتاة الشاطئ، هدى غالية التي قتل الاحتلال والدَها وستةً من أفراد أسرتِها وهي في رحلةٍ صيفيةٍ على شاطئ البحر، ترك "المهنيّة" لعدستِه و"الدّمعَ" لقلبِه ليخرج بصورةٍ إخبارية إنسانية ويفوز بالجائزة الدولية التي تُنظم برعاية مؤسسة رولي بك ترست العالمية في لندن.

يعبّر أبو هربيد:" أنا لم أحظّ بذلك التميّز إلا بفضل زوجتي بعد الله، فقد كانت في بيتي المرأة والرّجل في آنٍ واحد، فتحمّلت كل مسئولياتِه من تربية للأولاد وعلاج وتعليم وتسوّق، تحملت أعباءه وهمومَه التي يقوم بالعادة بها الرجل".

ويستذكر لهفتها عليه حين عرفت أنه هو صاحب الصورة في تلك المجزرة وقد كان حينها في أحلك الظروف النفسية إذ انتهى لتوّه من التصوير فيقول:" انتشر الفيديو عبر وسائل الإعلام، وأنا لم أكن أعلم بانتشاره بعد، فاتّصلت عليّ أم يحيى وهي تبكي بحرارة، وسألتني: "أنت من صورت هدى غالية؟" ولم أكن أعلم باسم الصغيرة آنذاك، فأجبتها بالنّفي فلم أرد أن أقلقها وإن كنت في أسوأ حالاتي النفسية".

ويضيف:" قالت لي حينها: بل أنت، لقد عرفتُك من خيالِك وصوتِك"، ويضيف:" عدتُ للبيتِ فاستقبلتني بدموعِها التي ملأت كتفي، وأخبرتني أنني بكيت على الصورة كثيرًا لكنني بكيت خوفًا عليك أكثر".

ويتابع:" هذه المحادثة وذلك المشهد منذ كنا في بداية الثلاثينات ولدينا تسعة أولاد، محفوران في ذاكرتي للأبد ومرتبطان بمشهد هدى غالية".

ويروي:" تحمّل زوجتي تلك المسئولية وعدم تذمّرها أو شكواها، بل وقوفَها سندًا ودعمًا نفسيًا لي، أعطاني مساحةً من الوقت وجعلني متفرّغًا لمهنتي قادرًا على التجديد والتميّز".

ويقول:" مهنتي شاقة وراقية وفيها الرسالة أقوى من أي رسالة، ولكي تتميز فيها يتوجّب عليك أن تكون متفرّغًا معظم وقتِك، وهذا هو الأمر العظيم الذي قدّرته أم يحيى، فلم تُشعرني يومًا أنني مقصرٌ في بيتي، بل وقفت بجانبي ودعمتني نفسيًا، ومنحتني أفضل الأولاد وتكفّلت بكل ما يخصّهم ويخصّ البيت".

مصور الحروب أبو هربيد الذي عُرف عنه مجازفتَه من أجل إيصال الحقيقة سافر مرارًا وتكرارًا لأشهر طويلة متتابعة، تارةً للعمل وأخرى للعلاج بسبب الإصابات التي تعرّض لها خلال تغطيته، وما تزال أم يحيى تقوم بدوريهما معًا.

كانت تطمئنه أولًا بأول على حالها وحال أولادِها رغم اشتياقِها وخوفِها عليه، حتى إذا ما وقع حادث سيرٍ فأصاب ابنَها البِكر وهو في رحلة تصويرٍ وتغطيةٍ لليمن وحروبِها عام 2012، أخفت عنه الخبر وأوصت كل الأقارب والأصدقاء عدم إخبارِه بشيء لحين خروجه –وفق قوله-.

يعلّق:" كانت تشعر بي وكأنها معي، تعيش حالتي النفسية، وظروفي، تفهم كل ما يدور في خلدي وتتصرف وفق ما يريحني ويخفّف عني، لذلك كنت أشعر أنها معي في كل لحظة، ولذلك أنا ممتنّ لها على مدى العمر".

وفي العدوان الأخير على غزّة عام 2014، أعلنت الوكالة التي يعمل فيها أبو هربيد حالة الطوارئ والدوام طوال اليوم، في حين أن عائلته تسكن في بيت حانون شمالًا حيث أكثر المناطق خطرًا.

يروي:" اتّصلت بي وطمأنتني على الجميع وطلبت مني بشدّة أن أبقى بالمكتب وأنها ستهتم بكل أمور العائلة، بدلًا من أن أعود مساءً في ظل الوضع الخطِر، ففعلتُ".

ويكمل:" بدأت العملية البرية فكان أول شهيدين ابنيّ أختي، وحين اشتدّ القصف على البيوت نزحت أم يحيى مع الأولاد للاحتماء في المستشفى القريب الذي قصفه الاحتلال فيما بعد وهم بداخلِه، وبالرغم من ذلك أخبرتني أن أمورهم كلها بخير وطلبت مني أن اهتمّ بنفسي فقط وألا أشغل بالي بهم".

مواقف كثيرة مرّت في حياة أبو هربيد ترسم حكايات التضحية والإخلاص التي تميّزت بها أم يحيى فكانت أحلى من العسل على قلبه الذي أرهقته حكايات الحروب وتفاصيلها، ومدّته بالطاقة كي يستمر في عمله ويرسل رسالتّه على أكمل وجه.

ومن غزّة إلى أوروبا حيث زوجته الغائبة منذ ثلاث سنوات يرسل أبو هربيد رسالة امتنانِه وشكره إليها عبر تلك الزاوية علّها تكون جزءً من ردّ الفضل لأصحابِه.