ليس سهلًا على نفسية الفلسطيني المسنّ أن يغربل على الحواجز اللعينة كي يسمح له الصلاة في القدس وقد تجاوز الخمسين.
ليس سهلًا على نفسية الفلسطيني المسنّ على أحد حواجز الغربلة أن تشير له مجندة بإصبعها الصغير سامحة له بالعبور بعد أن تمعن النظر في الشيب الذي يغزو رأسه.
ليس سهلًا على نفسية الفلسطيني المسنّ أن يشير إليه أحد الجنود ببندقيته كي يتحوّل إلى المسرب الذي يقوده إلى "معّاطات" الدجاج (الباب الذي يدور كهربائيًّا والمتشعب الحديد بما يشبه ما يسلخ ريش الدجاج عن جسمها وهكذا اصطلح الفلسطينيون على تسميته).. وهناك يفحصون الهوية ويمحصون تاريخه وأسبقياته معهم وعليه أن لا تشوبه أية شائبة وإلا كان إرجاعه أو اعتقاله.
ليس سهلًا على نفسية الفلسطيني المسنّ أن يعيدوا من بين يديه طفله الذي لم يقتنعوا ببراءة طفولته، وهذا من المفترض أن يعود لتكحيل عينيه برؤية الأقصى عندما يبلغ الخمسين من عمره.
ليس سهلًا على نفسية الفلسطيني المسنّ أن يرقب حركة الحافلات التي تنقله والمقيدة بكل دقة من المعابر إلى أبواب القدس تحت حراب قوات أمنهم، تسير به من شارع إلى شارع حسب خطة أمنية تشعره بأنه إرهابي حتى النخاع والحذر منه واجب بلا حدود وأنه مجرد كائن غير مرغوب فيه، وإن كان ولا بد أن يصل إلى مصلاه فتحت حرابنا وكل حركة من حركاته محوسبة بحواسيبنا بكل دقة "على التكة"، والفلسطيني ينظر من خلف نافذة الحافلة محكمة الإغلاق، طلاقة الحركة لغيره من الجنس الآخر شعب الله المختار! لا شيء يقيد حركتهم بينما كل شيء يقيد حركته.. تتحرك الحافلة بأمرهم ومتى وحيث وكيف يريدون، وتتوقف بأمرهم في النقطة التي يريدون حيث يطلق سراح الفلسطينيين من الحافلة إلى حيث المسرب الذي يوصل إلى مكان السجود دون أي هامش لخطوة هنا أو هناك.
ليس سهلًا على نفسية الفلسطيني المسنّ أن يصل القدس العتيقة ليكتشف أنها ثكنة عسكرية لهم وأن عليه أن يضبط كل حركاته وسكناته وإلا كان طاعنًا لأمنهم واستحق بذلك أن تأتيه النيران من كل جانب.. أية غلطة مقصودة أو غير مقصودة ستكلفه حياته وسيكون رأس ماله خبرا جاهزا مفبركا عاجلا.. مجرد خبر لا يستحق عناء كاتب الأخبار أي جهد، ما عليه إلا أن يضع الاسم مكان اسم في خبر سابق، وما على ناطقهم العسكري أدرعي إلا أن يخطب فينا عن فضائل يوم الجمعة عند المسلمين وسلطة حماس التي ترسل الإرهابيين للقتل.
ليس سهلًا على نفسية الفلسطيني المسنّ أن يرى جنودهم على بوابات المسجد الأقصى وقد أوقفوا كثيرا من الشباب الذين تجاوزوا غربلة المعابر.. يحال بينهم وبين الصلاة في أقصاهم والشوق قد ملأ ما بين القلوب والحناجر، وحيث لم يتبق بينهم وبينها سوى بضع خطوات..
ليس سهلًا على نفسية الفلسطيني المسنّ وهو يرى المشهد في ساحات المسجد الاقصى قد غصت بمن اشتعلت رؤوسهم شيبا وغاب الشباب إلا قليلا ممن تجشموا مخاطر جمة بغية الوصول والنجاح في تحدي غربلتهم اللعينة، بينما تنتابه مشاهد "الزعرنة" لأولادهم وفتياتهم وهم يقومون برقصاتهم اللعينة على ساحات المسجد بقية أيام الأسبوع.
ليس سهلًا على نفسية الفلسطيني المسنّ أن يستمع إلى صوت الأذان المخنوق للمسجد الأقصى، وأن يرى الإجراءات العقابية من ترميم وإعادة تأهيل ومن السطوة الغاشمة على أنفاس المسجد ومن يقومون برعايته، يرى مسجدا دامعا ويسمع صرخات أنينه التي تدمي القلب وتقطع عروقه وتشاطره البكاء المر على أيام قد خلت وتاريخ مشرق قد داهمه ظلامهم الحالك وربض على صدره إجرامهم الأسود.
ليس سهلًا على نفسية الفلسطيني المسنّ أن يستمع لخطبة عالم أزهري قد خرجت من سياقهم وأشعلت شمعة وتحدثت عن ظلمهم وظلامهم، ليعود إلى قلبه متسائلا من يسمعك سيدي الشيخ؟ أنت تخاطب أمة، وسادةُ هذه الأمة لا يعرفون إلا لغة التوسل ممن يملك القوة ويصرّ على دعم هذه الغطرسة.. قادة أمتك سيدي الشيخ وأنت تغامر بكلمة تنتصر فيها للأقصى في سباتهم نائمون ومع سبتهم يسبتون..
ليس سهلًا على نفسية الفلسطيني المسنّ وهو يقارن ما بين اليوم وسبعينيات القرن الماضي، حيث كان يأتي للأقصى دون هذه الغربلة ويستمع لخطيب المسجد المشحون بالتحذير من مخططاتهم ، ثم ها هو اليوم يرى أسوأ مما كان يسمع من تحذيرات.. ماذا فعلت تلك التحذيرات في أمة وقادة لم تكن تستمع جيدا لهذا الشيخ ولم تفعل شيئا إلا الفرجة وانتظار المستقبل المعلوم؟!
وبعد أن صلى الجمعة وقطّع الشيخ قلبه في خطبته حيث لم يكن مقصودًا من الخطاب لأنه ليس من القادة أو ذوي الرأي في أمة باتت تترقب ما هم الأعداء فاعلون بقدسهم، تذكر مرارة الغربلة على الحواجز، ولأنه لا يثق هل سينجح مرة ثانية في أن تتاح له هذه الفرصة المغمسة بالذل أم لا.. فقد قرر أن يصلي العصر وأتبعها بالمغرب والعشاء والتراويح ثم قرر أن يبيت في المسجد ناويًا الاعتكاف.. وإذا بأصوات تنادي بإخلاء الساحة، فوجئ بأنه لا يسمح للمصلين والمعتكفين ورمضان لا يشفع لهم باللقاء، بينما كانت أصوات النائحين تتعالى من كنيسهم الذي بنوه في مكان غربي عالٍ يطل على مسجدنا.. حار المسنّ الفلسطيني في أمره إلى أن أسعفه صوت مسن مثله: عليك بالاختباء في المسجد المرواني هناك.. يا الله.. علينا أن نختفي عن السطح وأن نخلي المشهد من هذه الأشياء القبيحة! التي تسمى إنسان فلسطيني.
هناك في المسجد الأقصى كيف تحتمل نفسية الفلسطيني المسن وهو يدفع ليختبأ تحت الأرض بناء على تعليماتهم وأوامرهم اللعينة.. لم يكتفوا بوضعنا في مسربهم وملاحقة خطواتنا بل علينا أن نختفي عن المشهد في الوقت الذي يريدون والمكان الذي يريدون.
وعند الفجر يطلق سراحنا من هذا المخبأ لنساق إلى صلاة مغمسة بالذل والهوان .. ويصرّ الفلسطيني على تلمس هامش من الحرية لتصدع أصوات حرة بعد الصلاة تسب وتلعن الاحتلال ومن يتساوق مع هذا الاحتلال.
ما أحوج القدس لمسيرات العودة التى تجري على أرض غزة.. حتمًا ستسير الجموع قريبًا لتعلن الصلاة الحرة لكل فلسطيني حر، شبابه قبل شيبه، رجالا ونساء وشيوخا وأطفالا.. وسيكون شعارها: نريد صلاة حرة لا غربلة احتلال فيها ولا مذلة.