كلما أبحرنا في التاريخ وجدنا ما لم نكن نتوقعه أحيانا، أو أنه مخبأ بين السطور ففي الوقت الذي كنت أقرأ فيه شعرا، وجدتني أصل إلى بيتين أزعم أني لم أقرأهما قبلا .. اما مناسبتهما، فهي حين زار الأمير فيصل بن الحسين بن علي أول ملك للمملكة العراقية وملك سوريا مدينة القدس في نهاية العشرينيات من القرن الماضي، فكان أن استقبله الشاعر الفلسطيني الشاب يومها ابراهيم طوقان بقصيدة مطولة، كان الأميز بينها البيتين التاليين:” ياذا الأمير أمام عينك شاعر / ضمت إلى الشكوى المريرة أضلعه ../ المسجد الأقصى أجئت تزوره ؟ أم جئت من قبل الضياع تودعه؟”.
نحن إذًا أمام موقف سياسي تجلى في قصيدة شعر .. فهل أن ضياع المسجد ذاك قديم العهد وليس جديدا طارئا على المحاولات الإسرائيلية لإضاعته، وبالتالي يتكرر التاريخ وتكرر، وهو ماثل أمام أعيننا، بل نعايش اليوم خوفا على المسجد من الضياع، لكأنما الشاعر طوقان يقرأ القصيدة قبل دقائق أو ساعات أو أيام قليلة.
ربما أراد الشاعر طوقان أن يختصر ضياع فلسطين كلها من خلال شعره، ومعها بالتالي المسجد الأقصى .. إذن، كان الفلسطينيون يعيشون هذا الهاجس، فوعد بلفور واضح لهم، والهجرات اليهودية على قدم وساق أمام أعينهم، والانتداب البريطاني على فلسطين يشجع اليهود في التدريب على السلاح وفي انشاء المستعمرات .. كل الدلائل كانت في تلك الاتجاهات، توقيت الهجمة اليهودية لابتلاع فلسطين هو غير الواضح فقط، أي تاريخ النكبة الذي حصل ، جاء في وقت لم يكن الاستعداد الفلسطيني حاضرا ، ولا أيضا العربي، فيما كان اليهود قد انهوا تماما خطط استيلائهم على فلسطين وكيفية اتباع الطرق لذلك وفي طليعتها ممارسة الصدمة والرعب.
والشاعر إبراهيم طوقان الذي مات في ريعان شبابه لأسباب مرضية، تسنى له ان يعيش بعض مرحلة الثورة الفلسطينية في شكلها الأولي في الثلاثينيات، فكان أول من اطلق على المقاوم الفلسطيني كلمة فدائي وقد رسمه بقصيدة من الشعر يقول مطلعه ” لا تسل عن سلامته / روحه فوق راحته”.. لابد إذن من إعادة قراءة التاريخ الفلسطيني قبل النكبة لمعرفة ما جرى وما أوصل اليها .. ثم تفاصيل النكبة وما بعدها، والتي دارت حولها الشبهات التي أدت إلى تكريس الوجود الصهيوني على فلسطين.
في الثلاثينيات من القرن الماضي ألقى المفكر اللبناني أمين الريحاني خطابا في نيويورك تحدث فيه عن مخاطر الصهيونية على فلسطين، كما أن مؤسس الحزب السوري القومي الاجتماعي انطون سعادة أشار في الكثير من كتاباته وخلال الثلاثينيات أيضا إلى هذا الخطر المحدق بفلسطين .. وكثيرون لهم كتابات في هذا الاتجاه وفي التنبيه له وماذا ينتظر العرب، في الوقت الذي كتب فيه سفير لبنان في الأمم المتحدة في نهاية الأربعينيات من القرن الماضي شارل مالك، أي بعد قيام (إسرائيل)، عن أن قيام (إسرائيل) يتحمله الضعف العربي وأن هذا الكيان لن يعيش طويلا لكنه اذا تجاوز الربع قرن فسيعيش ثلاثة أرباعه.
قرأت ذات مرة لأحدهم رأيا فيه تمنيات كاتبه أنه لو قبل العرب بتقسيم فلسطين لما وصلت (إسرائيل) إلى هذه الدرجة من التمدد، بمعنى أن كاتب هذه السطور يشرح بأنه كان على العرب القبول بوجود (إسرائيل) ضمن الحدود التي رسمت لها، وهم بالتالي يتحملون مسؤولية ما جرى أيضا قبل أن تندلع الحرب بعد استيلاء اليهود على الأرض.