من هو أبو السكر بداية؟ هو أحمد جبارة من بلدة ترمسعيا، اعتقل على خلفية عملية فدائية نوعية هزت الكيان الصهيوني في سبعينيات القرن الماضي، حكم بالمؤبد، كان قامة شامخة كالجبال الراسية وكان عنوانًا للصبر والثبات ومقارعة السجان، كانت قصة هذا الشيخ أول ما تطرق قلب كل معتقل جديد يدخل سجن جنيد: "أتدري من يكون هذا الرجل؟ إنه أبو السكر؟ أتعرف من يكون أبو السكر؟ وترتفع معنويات المعتقل الجديد وتحلق عاليًا وهو يقارن بين حبسته التي تبدو قصيرة وسريعة إذا قورنت بحبسة أبو السكر، وأين ما قدم مما قدم هذا العملاق؟
أبو السكر كان مدرسة ثورية بامتياز، يكفيك منه أن تسمع سيرته الجهادية، ثم ماذا إذا أضفت مواقفه التي تقرأ فيها صدق انتمائه والروح العالية التي لم تتراجع جذوتها قيد أنملة على كر سنين السجن القاسية، سبع وعشرين سنة وهو يقوم بذات الدور المولد للروح العالية عند كل معتقل جديد لا يكل ولا يمل من طرح الرؤية القوية والنفس العالي، يشعر المعتقل الجديد أنه أمام جيش ثوري جهادي يتكلم من عصر الرجولة والمقاومة، لا يحب أن يتحدث عن تجربته الخاصة وأعماله البطولية وإنما يتكلم عن ثورة وعن حالة ثورية قادرة على مقارعة المحتل وإيلامه وفتح ثقوب مؤلمة في جداره الأسود.
وكانت روحه الثورية العالية تملأ السجن، تجده في مقدمة الصفوف عند أية مواجهة، لم يترك إضرابًا مفتوحًا عن الطعام إلا ودفع أرطالًا من لحم جسمه، ثم تجده أسدًا هصورًا في ساحة الرياضة ليشكل فيها قدوة للشباب، كان أول الراكضين، يراهن الشباب ليكمل الساعة ركضًا فيتصبب عرقًا ولا يتراجع عن الشباب لحظة.
كان يختم القرآن في السجن 30 مرة في رمضان.. كل يوم مرة، هكذا يحب أن يكون دوما في المقدمة، مثالا يبدد العجز والكسل، لا يريد للأسرى أن يقضوا الشهر الفضيل نائمين، يريد لهم أن ينهلوا من القرآن في عملية ترقية وتزكية لنفوسهم، ولا يمارس التوجيه بالوعظ والإرشاد، وإنما بالقدوة والعمل، كان هناك من يختم القرآن في الشهر مرة وهناك في الشهر مرتين وكان صاحب الهمة الأعلى من يختم كل ثلاثة أيام، جاء أبو السكر كعادته التي تأبى عليه إلا أن يكون في المقدمة ليختم كل يوم ختمة، وعلى سنوات طويلة أرسى في قلبه هذه العادة العظيمة، له مع القرآن في رمضان ثلاثين ختمة. وكان في غير رمضان يعود من ساعة الرياضة ليصلي الضحى ثماني ركعات مع قراءة جزء من القرآن.
كان قرآنيًا بامتياز ولم يكن هذا مجرد حروف وكلمات على اللسان وإنما كانت صبغة قرآنية شاملة تنعكس على دماثة أخلاقه وتواضعه الجم وخفض جناحه لإخوانه الأسرى واستعداده الدائم للعطاء والتضحية.
أطلق سراحه بعد سبع وعشرين سنة من المرابطة في هذا الخندق المتقدم على تخوم عدو يشحذ في وجوههم كل أسلحة الحقد ويتفنن في كيل أعتى صنوف القهر، وكانت له جولات ميدانية متواصلة، مع القرآن بين سوره وآياته ومع الأسرى داخل السجن ومع أهاليهم بعد الإفراج عنه في مسح آلامهم وتضميد جراحهم. وقد كانت له نهاية جميلة حيث توفي في رمضان بعد زيارة تفقدية لأهالي الأسرى مضمّدًا جراح الذكريات التي تنزف في هذا الشهر الفضيل.. لم يحتمل قلبه الكبير رؤية هذه الجراح التي أثارت له جراح 27 رمضان قضاها في السجن.. عاد من مدينة نابلس مرهقًا وكأن قلبه الكبير قد ناء بما تنوء عن حمله الجبال، تاق إلى الرفيق الأعلى ومغادرة هذه الدنيا التي قسا ظلامها بهذا الشكل المريع على الطيبين من أهلها، رفرفت روحه عاليًا ليلقى الأحبة من سبقوه هناك.. لفظ أنفاسه الأخيرة في رمضان الشهر الذي أحبه ويحبه، الشهر الذي يأتيه عند ربه محمّلًا بثلاثين ختمة للقرآن.