الحديث عن السرّ المكنون في يحيى عياش ليس من قبيل المبالغات الأدبية، وإن كان لا يخلو من استبصار ونفاذ صوفي طبيعي غير متكلف، وذلك لأن سؤال السرّ في عياش هو سؤال العامة والخاصة، ومن عاش سحر لحظاته ومن لم يعشها، ومن عرفه ومن لم يعرفه، ومن اعتاد التأمل وتقليب النظر في حمولة الأيام، ومن كان مرّ الأيام على قلبه أهون من مرّ السحاب على بصره.
ولك أن تعجب من أمر رجل استحوذ على قلوب الناس من شعبه كلهم، فما فاته قلب، وما استكن عنه قلب، انفتحت له القلوب، كما لاحت له العقول بذواتها، تعرض نفسها لسحره وإلهامه، وتقلب أحواله المستورة في خيالاتها، ويأتيها بلا عناء، وتطلبه بالود الجارف، ولك أن تعجب بعد ذلك، أن هذا كله قد تحصل في ثلاث سنوات، في خاتمة رجل ارتحل عن العالم في الثلاثين، ولكن الأعجب أنه حاضر بذلك كله، في القلوب كلها، وفي العقول كلها، بعد واحد وعشرين عاما، كما كان في سنواته الثلاث الأخيرة، ورغم أن مياهًا كثيرة قد جرت أسفل جسور الوعي والإرادة.
ولأن عجيبة من هذا القبيل لا يمكن أن تسعها اللغة، ولأن إجماع الفلسطينيين على شخص واحد بلا اختلاف وعلى نحو لم يتحقق في أي مقاتل أو مناضل آخر؛ لا يبعد عن سرّ يصنعه، ولأن المقاربات التفسيرية تظل عاجزة إن كانت تتوسل شيئًا محسوسًا يملأ أبصار الناس، فإنه يمكن للمؤمنين أن يردّوا الأمر إلى إرادة إلهية وضعت سرّها في ذلك الرجل!
بيد أن الحس في حالة عياش لا يقصر عن الروح فيها، ولا الملموس منها يقل أثرًا وحضورًا عن سحرها الغامض، وهو الأهم، الذي يتبدى في كون عياش فتحًا من الله، وأن حياته المستمرة التي قُدّر له أن توافق اسمه في مطابقة شديدة العجب؛ تلوح منها معانٍ متجددة عن حقيقة الشهادة، وحياة الشهداء وخلودهم.
بزغ يحيى عياش شمسًا منذ لحظته الأولى، وأشرق فجأة على الفلسطينيين، في مرحلة وسيطة ما بين بدايات الانتفاضة الأولى ونهاياتها، فقد بدأت مطاردته قبل توقيع اتفاق أوسلو بأقل من خمسة شهور، وشكّل مع رفاقه التحول الأهم في مسيرة الانتفاضة الفلسطينية الأولى، وبهذا وضع حفنة من الفتية -المعدمين من الإمكانات والموارد- معادلة جديدة، لا تتحدى الكيان الصهيوني فحسب، ولكنها تتحدى إرادات العالم التي اتحدت كلها على دفن الانتفاضة الأولى، وتصفية القضية الفلسطينية، وتتحدى مسيرة الانحدار التي اختارتها القيادة المتنفذة في حركة فتح ومنظمة التحرير.
لم يكن يحيى عياش ورفاقه أول من اخترع فكرة العمليات الاستشهادية، أو عمليات التفجير، ولا حتى في السياق الفلسطيني، ولكن عملية الشهيد ساهر تمام التي أعدها يحيى عياش ورفاقه، في 16/4/1993 كانت الأولى من بعد الانتفاضة الأولى، وتبعتها عملية الشهيد أنور عزيز من حركة الجهاد الإسلامي في 13/12 من العام نفسه.
وبهذا؛ لم تكن حماس وحدها التي تفكر في تطوير الانتفاضة الفلسطينية الأولى، فقد كان هناك توارد خواطر جهادي دون ترتيب أو تنسيق بالضرورة، ما يعني أن ذلك التطور كان انبثاقًا طبيعيًّا عن تلك الانتفاضة، وبناء على مراكمة الفعل الجهادي في الزمن الفلسطيني، ولكن عملية الشهيد رائد زكارنة في 6/4/1994، والتي جاءت ثأرا لشهداء المسجد الإبراهيمي عبّرت مع ما تبعها من عمليات عن البوابة الجديدة التي فتحت في زمن النضال الفلسطيني، ولاسيما أن تلك البوابة ارتسمت بعمليات الاستشهاديين وبحكايا المهندس المطارد.
مع تحول مشروع التسوية إلى حقيقة واقعة في صورة السلطة الفلسطينية، انعدمت الإمكانية لاستمرار الانتفاضة الأولى بطابعها الشعبي، وقد فقدت تلك الانتفاضة بمجرد دخول السلطة الفلسطينية أكثر أدواتها التي كانت تتحدى بها الاحتلال، وصار الفعل الانتفاضي بذلك الطابع بما هو احتجاج مدني بلا معنى مع وجود ممثل سياسي للفلسطينيين يملك أدوات الضبط والسيطرة، وصار هذا الممثل السياسي حاجزًا ما بين الجماهير والعدو المحتل، ومانعًا للاشتباك.
وحده التحول المنظم، في شكل الأجنحة المسلحة، الذي حافظ على استمرار كفاح الفلسطينيين، وهو الذي ربط لحظة الانتفاضة الأولى بما بعدها، فقد استمرت المحاولات الجهادية، تصيب أحيانًا وتخفق أحيانًا، تحفر في صخر الواقع المصمت، وتعاند الحقيقة السياسية التي مثلها وجود السلطة، وقد استمر الحال على ذلك إلى ما قبل سنتين من انفجار انتفاضة الأقصى، حينما جرى تفكيك آخر خلايا كتائب القسام بالضفة الغربية، بعد تفكيكها من قبل في غزة.
لما انفجرت انتفاضة الأقصى، لم تُبنَ على استمرار تنظيمي، وإنما أعادت فصائل المقاومة البناء من الصفر، ولكن الحالة التي صنعها يحيى عياش ورفاقه، ظلت الهادي لعملية إعادة البناء التي واكبت تلك الانتفاضة، ثم لم يكن عنفوان الانتفاضة الثانية إلا تكثيفًا لأساليب يحيى ورفاقه.
الانتفاضة الثانية، حرّرت قطاع غزة، ووفرت للمقاومة قاعدة انطلاق وبناء تتسم بالثبات والاستقرار النسبيين، ويمكن القول: إن هذه الانتفاضة هي اللحظة التي انبثقت منها بنية المقاومة الحاضرة الآن في قطاع غزة، ما يجعل القول دقيقًا جدًّا بأن حلقات الكفاح الفلسطيني، متصلة، وما بينها من فراغات وهم عابر، وقد كان يحيى عياش واحدًا من أهم هذه الحلقات، إذ استمرت لحظته فعلاً حقيقيًّا في الواقع، وإلهامًا بالغ الفاعلية، وتجربة شديدة السحر والتأثير.
هذه التجربة، في خلاصة، استمرت طوال مرحلة السلطة، ثم أعادت تكثيف نفسها في الانتفاضة الثانية، وهي الانتفاضة التي أسست لقاعدة المقاومة الصلبة في قطاع غزة الآن، وهذه الخلاصة تضيف معنى آخر لحياة الشهداء، ومصادقًا آخر على سرّ يحيى عياش، الشمس التي لا تأفل، وفتح الله المبارك.
المركز الفلسطيني للإعلام