فلسطين أون لاين

​سنوات الغربة ثمنٌ يدفعه الأب في البُعد والقُرب

...
تقرير - فاطمة أبو حية

نحو ثلاثين عامًا من الغربة تحمّل الأب قسوتها لكي يوفر لبناته حياة كريمة، ويؤمن لهنّ مستقبلًا لا يتراجع فيه المستوى المادي الذي أَلفْنَه، ولمّا حان موعد تقاعده عاد إلى قطاع غزة متشوقًا إلى تعويض الأيام التي فاتته في كنف أسرته، ومصممًا على أن يعيش دور الأب من جديد، ذلك الدور الذي لم يشعر به بسبب البعد، لكن ثمة مفاجأة كانت تنتظره، وهي أن الواقع مخالف لكل أمنياته، فالبنات الستة يمارسن حياتهن وكأنه غير موجود، فقد كبرن وهو في الغربة وألفن غيابه، هذا حال بعض الأُسر التي يسافر فيها الأب سنوات طويلة، ولا يعود إلا بعد أن يكبر أبناؤه، فيجد أن لا مكان له في بيته وبين فلذات كبده.

في القلب فقط

تقول ابنته التي فضّلت عدم ذكر اسمها: "سافر أبي للعمل في إحدى دول الخليج قبل أن أُولد، وعاد وأنا في عامي الأخير بالجامعة، أي أنني عشت حياتي دونه، وتخطيت كل العثرات دون الرجوع إلى مساعدته، ودون الاعتماد عليه في أي شيء، بل كانت أمي هي السند لنا دومًا".

وتضيف: "لم نكن نراه في سوى أوقات إجازته، فقد كان يزورنا سنويًّا مدة شهر واحد، وأحيانًا تطول مدة غيابه عن السنة، إذ كان يضطر إلى إلغاء إجازته بسبب ضغط العمل"، متابعة: "نتيجة لهذا الغياب الطويل لم يكن لوالدي مكان في حياتنا بعد عودته، فنحن اعتدنا أن ننجز احتياجاتنا بأنفسنا، أو أن نلجأ إلى أمي، إن احتجنا لمساعدة".

وتبين أن هذا الحال لم يرق والدها، وشعر أنه بلا قيمة في البيت، وأن بناته لا يحملن أي عاطفة تجاهه، خاصة أن غيابه كان من أجلهن، ما أشعل فتيل أزمة تمثّلت في شجارات دائمة معهن، ومع والدتهن التي اتهمها بأنها سيطرت على البنات وأبعدتهن عنه، تعقب: "لاشك أننا نحبه، ولكن هذا يبقى في القلب فقط، لأننا لم نألف وجوده في حياتنا".

تضحيةٌ لأجلهم

أما "آلاء" فقد تنقل والدها بين عدة دول للعمل، ولكنه كان حريصًا على زيارة أسرته مرة واحدة على الأقل سنويًّا، وفي بعض الأوقات حاول أن يأخذهم إلى حيث يعمل، ومع ذلك ترك غيابه أثرًا.

تقول: "على مدار 21 عامًا كنا نعرف أبي كزائر فقط، يأتي مرة أو أكثر في السنة، حاملًا لنا الكثير من الهدايا، وخلال أوقات الإجازة يحاول أن يسعدنا بطرق مختلفة، كاصطحابنا يوميًّا للتنزه"، مضيفة: "كان مجيئه إلينا يسعدنا كثيرًا، ولكن في الوقت نفسه كنا نهابه بدرجة زائدة عن الحد الطبيعي، وهذا شكّل حاجزًا بيننا".

وتتابع: "عندما وصل أبي إلى سن التقاعد وعاد إلى غزة ليقيم معنا كنا خائفين جدًّا من شكل علاقتنا به"، مواصلة: "الآن بعد مرور ست سنوات على عودته يمكنني القول: إن الحب موجود بشدة، والتفاهم يحدث في مستوى جيد جدًّا، لكن الرهبة المزروعة فينا منه لا تزال ترهقنا وتعيقنا عن التواصل معه بصورة أفضل".

وتبين أن والدها يتفهم الأمر تمامًا، ويحاول جاهدًا أن يتقرب إلى أبنائه أكثر، ويؤكد لهم بين الحين والآخر أن بعده عنهم كان تضحية منه لأجلهم.

دون الاعتماد عليه

ومن جانبها تقول الاختصاصية النفسية ليلى أبو عيشة: "إن غياب الأب خمس أو ست سنوات يعني أن جيلًا نشأ في هذه المدة، أي أنه إن ترك ابنه في سنواته الأولى فسيجده بعد عودته في مرحلة عمرية أخرى، وكلما طالت المدة مرت مراحل عمرية أكثر يكبر فيها الابن دون وجود الأب".

وتضيف لـ"فلسطين": "يكبر الطفل وينشأ وينتقل من مرحلة عمرية إلى ةأخرى دون الاعتماد على والده، وهذا كفيل بأن يُوجد حالة من الجفاء فيما يتعلق بالتعاملات في الحياة اليومية، أما العاطفة تجاه الأب فتبقى موجودة".

وتتابع: "في مقابل هذه الحالة مع الأب إن الأبناء يلتفون حول الأم لكونهم يعتمدون عليها طوال حياتهم، فهي على مدار سنوات عمرهم قامت بدور الأم بحنانها وعطفها، وبدور الأب في رعايته وضبطه للبيت، ولذا عند عودة الأب فإنهم أيًّا كان ارتباطهم به سيلجؤون إليها دومًا، وستحظى هي بتوجه أنظارهم إليها".

وتشير إلى أن درجة التأثر بغياب الأب تزيد وتنقص تبعًا لمدة سفره، وأعمار الأبناء، والمسافة الفاصلة بين الزيارات.

وتؤكد أبو عيشة أنه "لا أحد يشغل مكان الأب عاطفيًّا، لذا إن حب أبنائه له موجود، ولكن هذا الحب لا ينعكس على العلاقات والتعاملات اليومية، وقد يضغط الأبناء على أنفسهم ليسعدوا والدهم، لكن رؤاهم لا تتغير".

وتشير إلى أن السيطرة على هذه الحالة، وحصرها قبل تفشيها يحتاجان إلى اهتمام مكثف من الأب بأبنائه خلال أوقات الإجازة، والتعامل معهم بذكاء كبير ليكسب ودّهم، وأن يعيد ترتيب أمور الأسرة في زياراته، ويشعر أفرادها أنه هو القائم على أمورهم لكن الظروف تحول دون أن يكون معهم باستمرار، إضافة إلى الاستفادة من وسائل التواصل الحديثة التي لم تكن موجودة سابقًا، وأن يكون قدوة لهم حتى في غيابه، وأن يحرص على المقاربة بين زياراته لهم حتى لا ينقطع عنهم مدة طويلة.

وتبين أن الأم مُطالبة بشرح سبب الغياب لأبنائها، وتأكيد لهم أن والدهم يضحي من أجلهم.

وتقول أبو عيشة: "إذا وجد الأب بُعدًا من أبنائه عنه بعد عودته للإقامة معهم؛ فسيشعر أنه تعب من أجلهم، ولكنه دفع الفاتورة كلها بمفرده، لذا عليهم أن يقدّروه، ويشعروه بمكانته في البيت، وليعلموا أنه في هذه المرحلة يكون في أمس الحاجة إلى أن يقفوا إلى جانبه".