فلسطين أون لاين

​أبٌ استثنائي

...
الشهيد أحمد أبو نقيرة
غزة - ربيع أبو نقيرة

ليس من السهل أن تكتب في زاوية أهل الفضل، خصوصًا إن كان من تكتب عنه هو والدك.

الأب بغريزته وإنسانيته ومشاعره تجاه أبنائه هو صاحب فضل كبير، كما جرت العادة والعرف عند الجميع.

لكن هذا الأب استثنائي في نظري ونظر كل من عرفه، لاسيما أنه كافح طويلًا ووصل إلى مرحلة حبا فيها حبوًّا من شدة الوجع، من أجل أن يحيا أبناؤه حياة كريمة.

لديه ثمانية من الأولاد وبنتان، حاول تلبية رغباتهم جميعًا، فمن نبغ في دراسته وأراد إكمال الدراسات العليا أعطاه من عرقه ليواصل طموحه.

ومن سلك طريقًا أخرى في الحياة دعمه فيها حتى يصل إلى النجاح.

فضله عليّ لا يمكن للكلمات أن تخطه، لكن بعض المواقف والمشاهد يمكن أن تقرب الصورة إلى الأذهان.

عاش فقيرًا إلى حد الكفاف، وأطعم أطفاله _وأنا منهم_ على حساب جسده وعرقه، فهو لم يعرف للراحة طعمًا ولا للسكون طريقًا.

عمل في الأراضي المحتلة سنوات ذاق فيها الألم وأنهك جسده التعب، لكنه كان مستمتعًا بما يفعل، لأنه صاحب هدف يريد الوصول إليه.

كان يعود إلى المنزل بعد أسابيع أو أشهر بعلامات كالخطوط الحمراء والسوداء، تزين ظهره وكتفيه.

عمله المرهق في قطف الحمضيات كان كفاحًا يخوضه نحو الحياة.

يحمل "الترميل" أداة جمع ثمار الحمضيات على ظهره (وهي عبارة عن إناء من القماش يعلقه حول عنقه)، ويصعد به إلى السلالم وأغصان الأشجار، ويعود به إلى حاوية أكبر (مخال)، ويستمر في ذلك طيلة النهار، وفي أحيان يضيء كشافه الصغير لتمتد ساعات العمل بعد غروب الشمس.

نتيجة عمله الصعب أصيب بأمراض غضروفية في ظهره، واشتد به الوجع حتى وصل به الحال إلى الشلل التام والحبو في بعض الأحيان، لينقل على إثر ذلك إلى الأردن الشقيق ويجرى له عملية جراحية في ظهره أعادته إلى الحياة مرة أخرى.

أقفلت أبواب العمل في الأراضي المحتلة، فعاد إلى كفاح جديد بعمله في زراعة أرض مؤجرة وتربية الأغنام، يعيلنا من ورائها ويحقق آمالنا وطموحاتنا.

حمله كان ثقيلًا، لكن إرادته الصلبة وإيمانه بسمو الهدف ساعداه على اجتياز مراحل صعبة، ليصبح أبناؤه أفرادًا فاعلين في المجتمع.

أنا ربيع بن أحمد بن سليمان أبو نقيرة كاتب هذه السطور، أفتخر بأبي كثيرًا وأحب ذكر فضله عليّ في كل المواطن، لاسيما أنه كان السند الأساسي والوحيد لمسيرتي التعليمية، حتى أصبحت صحفيًّا أصول وأجول في الميدان وأحمل اسمه.

أذكر عندما كنت أطلب منه ثمن المواصلات من رفح حيث أسكن إلى غزة حيث الجامعة التي أدرس فيها يوميًّا، فيعطيني نقودًا كان قد جهزها لأمي لتذهب بها إلى السوق وتشتري طعام الغداء.

يُؤْثِر استمرار حضوري للمحاضرات على توفير الطعام للمنزل، منتظرًا ذلك اليوم الذي أصبح فيه صحفيًّا، ويُذكر فيه اسمه بجانب اسمي، ويفخر بي أمام أصدقائه.

وصلت إلى المستوى الرابع وكتبت اسمي ثلاثيًّا في صحيفة الجامعة الإسلامية في إطار التدريب، وجلبت ذلك العدد إليه، فنظر إليه مطولًا، وقرأ التقرير الأول الذي كتبته، فأعرب عن سعادته، وظهرت البهجة على وجهه وكأنه يحصد ما زرع.

أذكر عندما كنت أطلب منه رسوم الفصول الدراسية التي تبلغ 300 دينار أردني عند التسجيل لكل فصل دراسي، ونحن بصعوبة نجد مالًا نشتري به قوت يومنا، فيضطر إلى بيع رأس من الأغنام التي يربيها في حظيرته الصغيرة ليوفر لي الرسوم.

مواقف كثيرة لا يمكن حصرها في هذه الزاوية الصغيرة لفضله عليّ، أذكر منها أخيرًا أن جعلني صديقًا له يشاورني في بعض الأمور وأطلب مشورته في بعضها، لاسيما أن فارق السن بيننا كبير، فأنا شاب مراهق وهو رجل دخل عقده الستين.

رحل أبي شهيدًا جراء قصف الاحتلال لمنزل أبناء عمومتي خلال عدوانه على قطاع غزة عام 2012م، ولم تكتمل فرحته بتخرجي في الجامعة، ولم يتحقق بعد من أنني أصبحت صحفيًّا، لكن المؤكد أنه ذو فضل كبير عليّ وأنني أفخر به في كل المحافل.