حتما عندما يلتف الأسرى حول مائدتهم لتناول طعام الإفطار في رمضان يتذكرون موائدهم في بيوتهم، هذه المائدة الكئيبة الواقعة في المساحة ما بين الحمام وابراشهم، يحشرون اجسادهم برص صفها كي يتسع المكان، لا ينظر احدهم في وجه الاخر كي لا يرى العيون اللامعة بدموعها المختبئة خلف كبريائهم، لا يريد احدهم احراج صاحبه، يطلق البعض نكاته كي يبدد ظلمة المشهد ويُخفي ما اعتمل في نفسه من مشاعر البؤس والالم.
وموائد اهالي الاسرى الكل فيها يتخيل المقعد الخالي في هذه الدائرة الملتفة حول المائدة، هذا الغياب القسري وهذا الغائب الحبيب: اين هو الان وماذا يفطر وكيف ومع من وما هو شعوره الآن لحظة الاذان؟ من اعد له طعامه وهل سمح له باختيار ما يحبه وهل يكفيه لسد جوعه؟ ومائة سؤال وسؤال تدور في الرؤوس وتثقل المعدة بفقدان الشهية، والأم تنطلق دموعها وينشغل الاخرون باطفاء نار لهيبها أو تهدئته على الاقل..
ويمر شريط ذكريات خلت على الاسير وهو يتجول في الاسواق ليشتري لمحبيه في العائلة كلّ ما يحب ويشتهي، بينما هو الآن مقيد لا يعرف سوقا ولا يعرف ما سيأتيه من طعام الا ما اعتادت عليه السجون من طعام قد كلّت أمعاؤه منها.. ويرى في شريط اخر موائد العزائم الرمضانية وجمعات الرحم والاحبة حيث ما لذ وطاب من طعام وكلام ومشاعر جميلة، يجتمعون عليها، ولا يغدو الطعام والشراب الا فاكهة هذه المجالس الزاهية المتألقة بروحها العالية.
والأهل يتذكرون تلك الافطارات التي اجتمعوا عليها وكان أسيرهم حينها درة تاجها متألقا، ترنو اليه القلوب وتعزف المشاعر ألحانها الجميلة، ثم ها هو الان يغيب في ظلامهم فتنطفئ البهجة من القلوب وينتشر الظلام حولها لتنقبض الصدور فلا تجد لطعام طعما ولا لشراب أي مذاق.
ومع كل طبق على مائدة الاسرى مقارنة وذكريات، يقارن طبق الفاصوليا البيضاء ناصعة البياض دون ان تلونها لحمة ضأن أو حتى شوربة دجاج، بالفاصوليا الخضراء المشحونة بالتوابل واللحوم وفن الاتقان ببركة يد ام او زوجة تضخ فيها من روح عطائها الجميلة ما يجعل منها وجبة لذيذة تتحف بروحها القلب قبل ما يتحف فيها البطن.
وهناك عند الاسرى من اطعمتهم ما لا يشبه طعام البيت الا اسمه، فمقلوبة الجمعة الشهيرة في السجون مثلا حيث يؤتى بمؤخرة الدجاجة على عدد من في الغرفة مع مخصصهم من الارز ليعاد طبخه داخل الغرفة مع قلي ما تيسر من باذنجان او بطاطا ثم تقلب ليقال عنها مقلوبة.. لا تشبه التي في بيوتهم الا في عملية القلب وسوى ذلك مختلف.
ويخزن الاسرى من مشاعر حرمانهم ما تنوء عن حمله الجبال دون ان يعتاد الامر .. حتما رمضان وافطاره يفجر آلامهم ويدفع مشاعرهم لتثور براكين على سطح وجدانهم.. ولا يقل ذلك عن اهاليهم حيث الشعور بالمحرومين من ذويهم أشد وطئًا من الحرمان نفسه.. تلهج الالسنة بالدعاء وتتعلق قلوبهم بالامل الذي لا يخبو مهما ادلهمت الخطوب وطال ليل الظالمين.