فلسطين أون لاين

​غزة تستقبل رمضان بأسلوب فريد

...
غزة - نبيل سنونو

قبل رمضان بيومين لم يكن الغزيون في الأسواق كبقية المسلمين في العالم، بل كانوا في مناطق السياج الفاصل بين قطاع غزة وفلسطين المحتلة سنة 1948، للمطالبة بحقوقهم.

هذه المناطق كانت وجهة الغزيين: نساء، رجالا، أطفالا، حيث انهمر الرصاص الحي وقنابل الغاز فوق رؤوسهم كما مطر الشتاء، وغطت سحب سوداء المكان عند إحراق إطارات سيارات "كاوتشوك" لحجب الرؤية عن جنود الاحتلال.

1 الحاجة أم إبراهيم

كانت تهرول مسرعة كشابة في مقتبل العمر، تصطحب معها رفيقاتها في الإنسانية والوطن للمشاركة في مسيرة العودة السلمية، لكنها تبلغ (60 عاما).

يمكن لـ"أم إبراهيم"، أن ترى من المكان الذي وقفت به الحشود البشرية التي تتوحد على حق العودة في مواجهة قناصي جيش الاحتلال، وطائراتهم التي تلقي من الجو قنابل الغاز المسيل للدموع، وقد يكون من بين هذه الحشود، ابنها، أو قريبها، وهذا هو تحديدا حال السيدة الفلسطينية.

"نحن تحت الاحتلال منذ 70 سنة، منذ أن فتحنا أعيننا ونحن تحت الاحتلال، كفى!"، قالت أم إبراهيم في دردشة مع صحيفة "فلسطين"، على بعد مئات الأمتار من السياج الفاصل شرق غزة.

لا أحد "بقي في بيته: الصغير والكبير والشيخ والسيدة والرجال كلهم جاؤوا لأجل القدس التي يدنسها الاحتلال"، كانت أم إبراهيم متحمسة لتحرير وطنها، بهذه الكلمات.

لن تنسى هذه المسنة، وغيرها من الفلسطينيين مشهد دخان قنابل الغاز والرصاص الحي الذي كأنما أصاب الجميع دون استثناء.

وزعت نظراتها على رفيقاتها وأضافت: "سأُسأل أنا وأنت ماذا فعلت يوم أن كانت القدس مدنسة؟ وسأُحاسب ويحاسب كل شخص لم يبذل جهدا".

ثم وجهت عينيها إلى السماء الملبدة بسحب بيضاء وسوداء، قائلة: "ربنا يستجيب لنا، أن تتحرر فلسطين ونحرر القدس".

وأم إبراهيم تقطن أصلا في قطاع غزة ولم يكن والدها من الفلسطينيين المهجرين عن أراضيهم سنة 1948، لكنها أكدت أنها تعد نفسها لاجئة إلى أن يعود كل لاجئ إلى أرضه. "فلسطين كلها بلدي".

وسط هتافات ثورية: "لبيك يا مقاومة"، و"الموت لـ(إسرائيل)"، لم يغب عن بال أم إبراهيم أن تشير إلى أن الفلسطينيين تجتمع لديهم فريضة الصيام في رمضان، مع النضال لأجل إنهاء الاحتلال.

وقد أبدت ثقة تامة بقدرة الشعب الفلسطيني على تحقيق أهدافه: "نحن لا نعتمد على أحد، نعتمد فقط على الله".

2 هلال العودة

الثلاثيني محمد أبو جياب كان حاضرا في خيام العودة شرق غزة، وقد تمنى أن يهل هلال العودة، مع قدوم رمضان.

تجول الشاب بين أبناء شعبه في الخيام، ومن عينيه انطلقت نظرات الرغبة العارمة بالعودة إلى الأراضي المحتلة التي يفصله عنها سياج احتلالي، يتمترس خلفه جنود يلقون على الفلسطينيين قنابل الغاز، ويستهدفونهم بالرصاص الحي.

"شعبنا على مدار تاريخه يُحتذى به بالعبادات، وبذل النفس (لإنهاء الاحتلال) في الوقت الذي ينشغل فيه العالم قبيل رمضان بالاحتفالات وتحضير وجبات الطعام والترف والرفاه"، قال أبو جياب لصحيفة "فلسطين"، مضيفا: "شعبنا يجود بدمه ويقدم في سبيل الله أسمى ما يملك".

وسط جموع بشرية هائلة جاءت من كل أنحاء قطاع غزة المحاصَر بشكل مشدد منذ 11 سنة، ذكّر بأن الفلسطينيين يعيشون أوقاتا "عصيبة" ويعانون الأمرين سواء على الصعيد المعيشي أو غيره، بسبب الاحتلال.

تسيطر على الفلسطينيين الرغبة في العودة إلى ديارهم التي طردتهم منها العصابات الصهيونية سنة 1948. أضاف أبو جياب: "ونحن نستقبل شهر الصيام نقدم هذه الطاعة (المشاركة في المسيرة السلمية) والتواجد في الميدان مقابل جيش همجي متغطرس، أصيب وارتقى برصاصه آلاف المصابين والشهداء".

وفي حين أبدى ثقة كاملة بمسيرة العودة السلمية كوسيلة لاستعادة الحقوق، ألقى باللوم على العالم الذي "خذل وتآمر" على الشعب الفلسطيني وتركه وحيدا.

"الآن يجمع شعبنا بين فريضة الصيام والنضال في سبيل الله"، يتمم كلماته، ويواصل مسيرته.

3 لا نفرّط

استظلت تحت شجرة في أرض واسعة ينتشر فيها دخان قنابل الغاز، والرصاص الحي. اصطحبت معها بناتها إلى هذه المنطقة على بعد مئات الأمتار من السياج الفاصل شرق غزة، لتقول: "لن يثنينا شيء عن حقنا".

كان برفقتها أيضًا أطفال أسرتها الذين أخبرتهم مرارا: "هذه أرضنا وسنعود إليها". المسنة الستينية أم علي الشنتف، قالت لصحيفة "فلسطين": "لا نرضى ولا نفرط بأي حبة رمل من بلادنا".

كأنما تعكس تجاعيد وجهها خريطة فلسطين، بحيفا ويافا وعكا والقدس وغزة وكل مدن الوطن السليب.

وبينما كانت واشنطن تنقل سفارتها إلى القدس المحتلة، في خطوة غير مسبوقة، أضافت السيدة الغزية: "نحن الشعب الفلسطيني، كلنا مقاومون".

ولم تخف حزنها لكون الشعب الفلسطيني تُرِك دون مساندة فعلية في مواجهة قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب.

وجاءت مسيرة العودة السلمية قبيل حلول شهر رمضان. عن ذلك قالت: "الصيام في رمضان فريضة، وهذا (المشاركة في المسيرة) نضال. نحن كلنا مناضلون في سبيل الله".

أشارت بيديها إلى أفراد عائلتها الذين كانوا يجلسون إلى جوارها، وأضافت: "هذه ابنتي، وهذه ابنتي الأخرى والأولاد الصغار ليعرفوا أن لنا حق عودة إلى أراضينا في يافا وحيفا وكل الأراضي التي سلبوها (العصابات الصهيونية) منا سنة 1948".

"بريطانيا سلبت فلسطين منا وأعطتها لهم (الصهاينة) بوعد بلفور"، تابعت حديثها، منوهة إلى دور المرأة الفلسطينية "التي تلد وتربي وتبين لأطفالنا أن لنا حقا يجب أن نحصل عليه".

قالت أم علي: "نحن كشعب فلسطيني محتل واجب علينا النضال"، منتقدة صمت العالم عما يقترفه الاحتلال الإسرائيلي بحق الفلسطينيين.

لذلك ذكّرت مرارا بأن القدس ليست فقط للفلسطينيين بل لكل المسلمين في العالم، محذرة من محاولات التطبيع.

أضافت: "سكوت العالم غير شكل. مطبعين مع اليهود وتاركينا إحنا كفلسطينية نناضل وحدنا لأجل القدس".

لكنها رفعت أصبع السبابة وقبضت أصابعها المتبقية في إشارة إلى التحذير والتحدي للاحتلال، مؤكدة أن الفلسطينيين "شعب مجاهد والنساء والأطفال والجميع يتنافسون في مسيرة العودة إلى البلاد".

صمتت لوهلة، ورفعت نظرها إلى السماء، ثم قالت كعالم واثق بالنجاح بعد طول تحضير ودراسة: "هذه المسيرة خطوة في طريق تحرير فلسطين. هذه رسالة نرسلها إلى العالم، أن هذه أرض أجدادنا وآبائنا".

4 دون مساعدة

كان جليا أن مسيرة العودة وكسر الحصار السلمية استقطبت الجميع: نساء، رجالا، مسنين، وحتى الأطفال.

من بين هؤلاء الخمسيني ماجد صبحي، الذي كان على بعد مئات الأمتار من السياج الفاصل جنبا إلى جنب أبناء شعبه.

"نحن هنا دون أسلحة ودون مساعدة من الدول"، قال لصحيفة "فلسطين"، مضيفا: "نحن نستعد لاستقبال شهر رمضان الذي فيه فريضة الصيام، وفي الوقت نفسه لدينا فريضة النضال لأجل التحرير، تجتمعان معًا".

هكذا هي غزة لم تقبل أن تحل الذكرى الـ70 لنكبة فلسطين –التي سبقت هذه السنة حلول رمضان بيومين- دون أن يكون لها كلمة توصلها بأسلوبها الخاص والفريد.