ربما يكون الحاضرون الذين استمعوا الى العرض العباسي، في الليلة قبل الماضية، مع بداية الانعقاد الذي أراده شخص يختزل في جيبه، الصلاحيات التشريعية والتنفيذية وكل الصلاحيات السياسية والمالية والأمنية؛ قد شعروا بحجم الخديعة والاستهبال الذي يلازم كل حديث له. إن كل شيء على لسانه لا زال على ما يرام، وليت الدول المستقلة، تستطيع أن تحذو حذوه الكريم الرشيد. فهي تتخلف عنه بسنوات ضوئية. فما هي الدولة التي وعدت شعبها بالطاقة النظيفة، وبالبيئة النقية التي لا تلوثها ذبابة؟ وما هو النظام الذي أعطى دوراً لمحكمة تنظر في دستورية القرارات سوى نظامه العادل؟ وما هو الحكم، الذي استطاع إضاءة المساحات البائسة، كغزة، وأغرقها بالطاقة الكهربائية والعِز والرُفاه؟ ومن هو الحاكم الساهر على الشفافية والاستقامة فلا يستثني فاسداً مقيماً من المساءلة القانونية، ويطارد الذين انتقلوا الى الخارج، ويثابر بوليس الإنتربول الدولي على التعاون معه، إعجاباً بأدائه وزُهده وديموقراطيتيه وحصافة جهازه القضائي وفاعلية المؤسسات الدستورية لكيانه الوطني؟
يرتجل محمود عباس اجتماعاً ويسميه دورة للمجلس الوطني الفلسطيني. لا يتردد في إقصاء أعضاء انتقدوا سياساته، ومنهم أعضاء تاريخيون. ويذهب الى اجتماعه، بعد أن جهز في الصفوف الخلفية المصفقين على كل كلمة يقولها، ويقدم لمجموع الحاضرين، درساً ركيكاً في تاريخ الوطن والقضية، مفترضاً أن الحاضرين لا يعرفون الحد الأدنى من علائم هذا التاريخ. يغرف من جعبة مثقوبة لا تحوي أكثر من جملة عن بعض ــ وليس كل ــ الأحداث الكبيرة. فهو المعلم الأوحد، والحاكم الأوحد وحامل الأسرار كلها. لا يعرف الناس شيئاً عن مسار التطورات. فهو الذي يقول لهم، وإن لم يقل، سيغرق كلهم في الجهالة، وما يقوله سيسمعونه للمرة الأولى، لأنه لم يُعرض للنقاش في اي إطار، لذا تراه يتفضل بالبَوح، بصيغته وعلى هواه، بينما السامعون لا يملكون الحكم على صدقية ما يقول، إذ يفتقرن الى قاعدة القياس والتقييم، ولا معلومات لديهم. فليس للشعب ولا لقواه السياسية والاجتماعية أي حق في معرفة الأمور في وقت حدوثها. فهو يتصرف باعتباره المفوّض السامي الوحيد، بالنطق الذي ينبغي أن يُسمع، وبالمعرفة التي ينبغي أن تكون، وبالحديث الذي يختار هو صيغته وإيحاءاته. أما شعب التضحيات، فلا حقوق له في المعرفة ولا في امتلاك إرادته!
عبثاً نقول إن حاولنا تسليط الضوء على مجمل العيوب والنقائص والتجاوزات التي انطوى عليها الانعقاد الضال. كل ما ينبغي قوله وتكراره، هو نفسه الذي يراه الناس بأمهات عيونهم، وهو أن الانعقاد لا يمثل إرادة الشعب الفلسطيني ولا قواه الاجتماعية والسياسية. وهذه بحد ذاتها تمثل انقلاباً على منظمة التحرير الفلسطينية، وإرهاصاً لكارثة كبرى وخراباً لن يقعد هو على تَلّه. ولأن التاجر الذي أتقن ألاعيب الكلام المخادع، باللهجة العامية لا بخطابات الفصحى التي تحدد التزامات الحكم وتُسجل كوثائق؛ يعرف أن مجلسه لا يمثل الشعب الفلسطيني؛ فقد لجأ الى التظارف والى استخدام المفردات الوطنية التي يعرف العدو مدى جديته في تحويلها الى سياسات ضاغطة عليه. فقد كان المطالبون بانعقاد وفاقي للمجلس الوطني، يخرج من خلاله الفلسطينيون من عنق الزجاجة، هم الذين ركز عليهم بالهجاء، ولم يركز على الاحتلال بمقاربات تتعرض لخلفيات سياساته والسياسات الأمريكية. بل إنه في تركيزه على معارضي الانعقاد الملفق، كان يتوخى رفع الغطاء السياسي والاجتماعي عنهم، كمن يقول للعدو وللأشقاء وللعالم، إن الحل في الإجهاز عليهم تماماً، لأنهم اختاروا أن يظلوا في الخارج. وأي خارج؟ خارجه هو المطمئن الى سلامته في قلب المنطقة العسكرية الإسرائيلية الوسطى!
هو، على أية حال، ذهب إلى مجلسه البائس قادماً من ثلاثة مآزق سيعود إليها على الرغم من أنفه: انقسام على مستوى النُخب السياسية الفلسطينية، وفي ثناياه انقسام على مستوى منظمة التحرير الفلسطينية وفصائلها وعلى صعيد فتح وكادرها، وانقسام يثابر على تغذيته بين المناطق ومجاميع الناس التي لم تتبق بينها أية مشتركات قابلة للعرض على مسرح الحياة، سوى مباهج فوز ريال مدريد أو برشلونة في كرة القدم. أما بؤس غزة الذي يلخص فضيحته، الإنسانية والسياسية الكبرى، فلا يستحق الإشارة، وهذا كله مع خواء المؤسسات الدستورية التي هي دورق التفاعل الاجتماعي لإنتاج السياسة.
الرجل الكابوس لا زال يهذر، وضحاياه المباشرون هم أولئك الحاضرون الذين اختاروا أن يكونوا الكومبارس المشارك في العرض السخيف!