فلسطين أون لاين

​إفطار الحدود.. صُحبة وحكاية جدود

...
غزة - حنان مطير

على سفرةٍ واحدة تتناثر حولها الابتسامات وتصطفّ عليها الأطباق الشهيّة، اجتمعت الحكايات واختلطت اللهجات اليافاوية والقبيبويّة والنابلسية، لتخرج بمزيجٍ فلسطيني أحلى من السكّر.

خمس نساءٍ جمعتهنّ الصحبة على تلك السفرة الصباحيّة عند دوار "ملكة" على الحدود مع الاحتلال شرق حي الزيتون، قرّرن أن يتركن الورقة والقلم لشيء من الوقت ويعِشْن أجواءً من السعادة وتجديد الطّاقة على طاولةٍ واحدة.

هناك، استذكرنَ حكايات الأجداد عن البلاد وتمنّين أن يكون الإفطار في البلاد المسلوبة قريبًا بعد تحريرِها من الاحتلال الإسرائيلي.

النابلسية ناهدة عصيدة، أرملة الشهيد مازن الفقهاء، كانت واحدةً من بين الصديقات.. تلازمها الكلمة الهادئة والابتسامةُ الرائقة، تشتاق لنابلس ولأهلها، وفق قولِها، بمقدارِ شوقِها إلى يافا وحيفا وسمسم ونعليا وأسدود التي تتوارى خلف سلك العدوّ.

وتعبّر: "لقد ازداد حبي إلى البلاد والقرى والمدن المُهجّرة لشدة ما تعلّق بها الغزيّون وأحبّوها، إنهم يتوقون للعودة إليها وكأنهم عاشوا فيها عمرًا طويلاً، وليس أجدادنا فقط من عايشوها".

وتقول: "لقد لمست مدى التماسك والتكافل بين الغزيين رغم كل الطرق المغلقة أمامهم، ورغم احتياجهم وقلة حيلتهم، وآلامهم وأزماتهم المتتالية، إلا أنهم يملكون من الكرامة ما لا يمكن أن يستوعبه الإنسان العادي".

وتضيف: "الشعب كله جسدٌ واحد، وروحٌ واحدة، وما يجعله أكثر تماسكًا أنه على ثقة بأن الرّب واحد و(الموت واحد)".

وتتبع: "صاحب الحقّ سلطان، لذلك فهم متمسكون بحق العودة تمسك الرضيع بأمّه، ليكسروا القاعدة التي قيل فيها إن الكبار يموتون والصغار ينسون".

عروس البحر

وكانت مقدمة البرامج في فضائية الأقصى وردة الزبدة مشاركةً على طاولة الإفطار على الحدود، وتعود وردة بأصولِها إلى مدينة يافا الجميلة التي تغنّت بها بعد أن سكبت فنجانًا من القهوة السمراء.

"يافا عروس البحر ما أجملها، وميناؤها من أهم موانئ فلسطين وأقدمها، فيها جامع يافا الكبير، وفيها كان يعمل والدي قديمًا، فكان يشتري الكتب من يافا، لأتعلق بها وبحروفها وبالقراءة منذ ذلك الوقت".. تروي.

وتكمل: "حين أرى البرتقال أتذكّر يافا، إنها في القلب حقًّا، وحين أسمعها أتذكر كل شيء جميل".

في إحدى الجمع الماضية أحضرت وردة أولادها الثلاثة وتعمّدت أن تحضر معها الألعاب وأن تشاركهم اللعب، توضح: "عرّفتهم بالبلاد المسلوبة وبيافا، وكيف أننا لا بد وأن نعود، وحاولت ربط موضوع العودة بكل ما هو جميل".

وتقول بأسف: "حين رأيت المحتلين قبل بضعة أيام خلف السلك الحدودي ويمشون في سطر كبير ويثبتون السياج في مكان أقرب، شعرت بالألم والقهر الشديد، فتلك بلادنا وهذه أراضينا يسرحون ويمرحون ويضعون الحدود فيها متسترين بسلاحهم".

تعلّق فطريّ

أما الصحفية آية أبو طاقيّة المتزوجة من غزّي الأصل، فإنها لا تكفّ عن الحديث لأولادها أيضاً عن البلاد وحق العودة إليها، حتى وإن كانت أصول كل من حولها من العائلة تعود إلى قطاع غزّة.

وكانت قد أحضرت صغيرتها ابنة الخمس سنوات لتشاركها الإفطار والاستماع للحديث فكانت مصغيةً دائمة الابتسام وقد تزيّنت بثوب فلاحيٍّ وقرطين وخاتم بخيوطٍ حريرية.

تقول لـ"فلسطين": "بلادنا تسكن روحَنا وإن كنت فقدتُ أجدادي قبل أن أستمع منهم لحكايات البلاد، فإننا نتوارث هذا الحب وننشأ ثائرين محافظين على حقّنا بالفطرة".

مدينة الحب

أما حكاية الصحفية اليافوية آلاء العتّال على تلك السفرة فكانت عن جدّتها "عائشة" التي كانت تشتاط غضبًا إذا ما سألها أحدهم "لماذا خرجتم من البلاد؟"، تروي آلاء: "كانت إذا ما أراد أن يستفزّها أحد ألقى عليها هذا السؤال، فتهبّ في وجهِه كالعاصفة، وتبدأ بالبكاء مستذكرةً الماضي المؤلم حين أخرجهم الاحتلال قسرًا".

وتصف: "كان حال جدّتي مؤلمًا وهي تروي وتبكي، ولا أنسى حكايتها مع أمّها حين كانت تحمل خالي على يديها، وطلبت منها أن تمسك (بابور الكاز) فقط، وأن تخلع حذاءها حتى لا تتعثر بشيء، قبل أن تسير بجوار الحيطان مع النساء".

وتقول: "تجمّعوا في الميناء، وجاءت سفينةٌ أخبرهم أصحابها أنها ستأخذهم إلى مصر ثم تعيدهم بعد يومين، لكنهم لم يعودوا فقد سيطر الاحتلال على البلاد وأجرم في أفعاله".

وتذكر آلاء أن يافا كانت بالنسبة لجدّتها "مدينة الحب"، ولطالما ألقت على مسامع أحفادِها المثل القائل "يا بتروبني يا بتطلّقني"، فقد كانت تترك أولادها في عناية أخواتها أو أمها وتذهب برفقة زوجِها للتنزّه في قرية "روبين".

فيما الصحفية فاطمة عبد الله ذات الأصول اليافوية أيضاً تختتم الجلسة بالقول: "نشتاق لكل بلادِنا، فترابنا واحد وأشجارنا واحدة وهمّنا واحد، وقدومنا هنا للمشاركة في المسيرات تعبيرٌ بسيط عن شوقنا وحبّنا ليافا وأشجارها ورائحة جدودنا فيه".

وتسرح قائلة بنغمة أمل: "يا ليتنا نعود إليها ونعدّ إفطارًا فلسطينيًا مكوّنًا من زعترٍ وزيت وزيتون وخبزٍ برائحة البلاد، وكأس شايٍ بنعناع الأرض الفلسطينية، نفترش الأرض الخضراء وقد نعمنا بالحرية والأمان، إنها صورةٌ من أحقّ حقوقنا لكن انتزاعها صعبٌ وبحاجة لوحدةٍ وطنية ما دامت عدوّتنا (إسرائيل)".