الفن بأشكاله كافة انعكاس للواقع، ففي سنوات الثورة الفلسطينية، وأثناء العمل الفدائي المقاوم للعدوان الإسرائيلي على البلاد العربية في الأردن وسوريا ولبنان، جاءت الأغنية الوطنية المعبأة بالحركة، والمعبرة بكلمات التحدي في أغنية: طالع لك يا عدوي طالع، وكذلك أغنية: طل سلاحي من جراحي، وفي الوقت نفسه جاءت الدبكة الشعبية التي تحاكي العمليات العسكرية المتحركة، فصار التعبير عنها فنياً من خلال حركة القفز من المكان، والتأكيد على سلامة المفاصل، وسرعة الحركة، وعدم الثبات في نقطة بعينها، وكان الموال الشعبي الذي يبدأ حزيناً، ثم يتفجر غضباً، مع تكرار ذكر المدن اللبنانية التي احتضنت الفدائيين مثل صيدا، وصور، وحاصبيا والليطاني وبيروت.
استمرت السيطرة الفنية للدبكة الشعبية طوال فترة الانتفاضة، والتي استوجبت الحركة والكر والفر والتجمع لنقل الجريح، والتفرق لقذف الحجارة، وهكذا من حركات ميدانية، تجلت تعابيرها من خلال الدبكة الشعبية كفن اكتسح الأفراح والمناسبات الوطنية، حتى جاءت اتفاقيات أوسلو، وسكنت الحالة الفلسطينية، فإذا بالفن الشعبي يشهد حالة انعدام الوزن، فلا الدبكة الشعبية تناسبه، ولا البكاء على الأطلال يعبر عنه، إنها المرحلة الانتقالية التي عبر عنها الشارع محمود درويش في قصيدة: سلم على بيتنا يا غريب، فناجين قهوتنا لا تزال على حالها، فهل تشم أصابعنا فوقها؟! لقد اختصر الشعر حالة التيه السياسي الفلسطيني، فالوطن فلسطين وطننا، والبيت بيتنا، والدار دارنا، ولكننا لا نسلم على بيتنا إلا من خلال عيون الغريب الصهيوني الغازي، حالة ارتجاج للذاكرة الجمعية، لم تقض عليها إلا انتفاضة الأقصى، التي أعادت للكلمة الشعرية قيمتها، وهي ترافق سلاح المقاومين وحجارة المنتفضين، وتبارك الحركة، وقد تشابكت الأيدي في الدبكة الشعبية كما تشابكت في الميدان، في أروع تعبير عن مزاج الشعب المقاوم.
منذ سنوات عدة، وبعد تصفية انتفاضة الأقصى، بدأ ينتشر في قطاع غزة والضفة الغربية فن السامر، والدحية، وراح يسيطر على الأفراح والمناسبات العامة، كل ذلك على حساب الدبكة الشعبية التي تراجعت إلى الخلف خطوات، احتراماً لمزاج الشارع، الذي يعيش حالة سياسية تقوم على الرتابة، والسكون، واستئناف المفاوضات، واستنزاف الطاقات، وانتظار نتائج الاجتماعات، والوقوف أمام مقرات الأمم المتحدة على أمل انتزاع قرار لصالح القضية، ولكن هيهات.
لقد انعكس العمل السياسي الفلسطيني في السنوات الاثنتي عشرة الماضية على مزاج الناس، الذين فتشوا عن التعبير الفني المناسب للحالة، والقائم على الوقوف في المكان، وعدم الحركة، فكانت الدحية خير معبر عن تلك الحالة السياسية، إذ يقف الشباب صفاً، يصفقون معاً، ويميلون برؤوسهم يميناً وشمالاً، مع حركة الجذع للأمام والخلف، وثبات القدمين على الأرض، لقد جاءت هذه الحركات الرتيبة والمكررة لتعبر عن الحالة السياسية التي يعيشها الشعب الفلسطيني.
وإذا كان السامر العربي والدحية فنًا نَظَم الكلمات مع حركة واحدة رتيبة، فإن الدبكة الشعبية فن تنظيم الحركات، يستعرض الشباب من خلال الدبكة قدراتهم الجسدية في القفز والحركة، ويستعرضون قدراتهم الذهنية في ترتيب الخطوات مع الإيقاع.
اليوم تجيء مسيرة العودة لتعبر عن رفض شعبي لحالة السكون، وعن رغبة شبابية لتكسير فخار الرتابة، وأخذ حجارتها لقذفها في مسيرات الحركة، والقفز بها حتى السياج الحدودي، والكر والفر الميداني، وقص السلك، واجتياز الحدود، وتسلق الحواجز. وهذا ما سيجد تعبيراته الفنية في الأيام والأشهر القادمة من خلال الدبكة الشعبية، التي ستزيح الدحية عن عرشها، وتحل محلها فناً شعبياً يعبر عن الواقع الفلسطيني الذي يمتلئ بالحركة، ويتفجر بالغضب، وقد تشبع بالإثارة، هذا الواقع لا يكفيه السامر، ولا تعبر عنه حركات الدحية، ولا يأنس ذاك الصوت الرتيب الذي يقول: يمسيك بالخير مسي لي ع أبو محمود، رجال طيب وصاحب الكرم والجود.
الواقع الفلسطيني الجديد تعبر عنه كلمات تقفز في الميدان: على دلعونا على دلعونا، ما أحلى عودتنا، الوطن حنونا
على دلعونا على دلعونا، وأنت يا غاصب ارحل من هونا
ونلتقي وإياكم غداً في خيام العودة، مع جمعة الشهداء والأسرى على أمل أن تكون الجمعة القادمة، جمعة الدبكة الشعبية، والغناء لفلسطين العربية.