هناك ثوابت تاريخية وسياسية، موضوعية وواقعية من المفترض ألا يختلف في شأنها أو يجادل فيها اثنان، لكننا _ومن عجائب هذه الأيام_ صرنا نختلف في أمر هذه الثوابت، أصبح أن تجتمع قوى الاستكبار العالمي في عدوان عسكري على بلد عربي مسألة فيها نظر، وأصبحنا نناقش المسوغ المعلن لهذا العدوان، وكأن ذاكرتنا أصبحت قصيرة أو أنها مخروقة لا تحتفظ بشيء حتى من الذاكرة القصيرة، فالعدوان الذي قادته أمريكا على العراق كان تحت مسوغ امتلاك العراق أسلحة الدمار الشامل (مع أن حليفهم في المنطقة يمتلك الأضعاف المضاعفة من هذا السلاح)، وثبت في تحقيقات أمريكية من الجهة المعادية نفسها أن العراق لم تكن تمتلك هذه الأسلحة، انتقلت من عدوانها على أفغانستان فورًا إلى العراق، وكانت النتيجة تدمير بلد ومئات الألوف من القتلى والجرحى وتهجير الملايين من أهل العراق، لماذا؟، لأن الكيان الصهيوني يريد ذلك، ولأن المصالح تلتقي على أن يبقى عالمنا العربي ضعيفًا أمام هذا الكيان.
وهذا هو تاريخ الاستعمار في بلادنا، لم يشهد أي بلد أي عمل عسكري للمستعمرين يكون لمصلحة هذا البلد، هم يسوقون المسوغات التي تسوغ عدوانهم، وقد كان في أصل استخدام مصطلح الاستعمار معنى إيجابي، وهو المساعدة في عمارة البلد المستعمر، لكنهم من المبدأ الميكافيلي: "الغاية تبرر الوسيلة" قتلوا ودمروا واستباحوا البلاد والعباد تحت ذريعة هذه الغاية، وهي تحقيق العمارة والحداثة وإشاعة الديمقراطية وحقوق الإنسان، وقل ما شئت من هذه الأقاويل جميلة الظاهر قبيحة الباطن، إذ يهلكون الحرث والنسل ولا يرى الناس منهم إلا كل ما هو قبيح ومدمر.
عندما يجتمع هذا العدوان الثلاثي بهذه الغطرسة وهذه العربدة (حتى إنهم تجاوزوا مسرحية الغطاء الأممي التي كانوا يتمظهرون بها كما في حربي الخليج الأولى والثانية)، ويضربون أهدافًا يختارها الكيان الصهيوني لهم، وكالعادة يروجون لمسوغ واهٍ يرتكزون عليه؛ فهل هناك وضوح أكثر من هذا أنه عدوان استعماري غاشم لا يقف خلفه إلا المصالح الأمنية الإسرائيلية والأمريكية في المنطقة؟!
كيف نجد من يؤيد أمريكا؟، متى وأين وقفت _ولو مرة واحدة_ بعيدًا عن المصالح الأمنية للمشروع الصهيوني؟!، ثم كيف نجد من يؤيد عدوانها؟، هي الدولة نفسها التي قدمت القدس لقمة سائغة للاحتلال، وجاء هذا العدوان السافر بعد مسافة زمنية قصيرة لم تكد تتسرب من ذاكرتنا القصيرة بعد، أمريكا وذيلها بريطانيا وفرنسا كذلك، وإن كان هناك من يؤمل عليها كأمل إبليس في الجنة فإنها على المحكات تثبت هذه التبعية العمياء لرأس الشيطان الأكبر أمريكا.
هذه دول الإجرام والاستكبار العالمي، تمارس إجرامها منذ كانت تمارس الاستعمار المباشر وإلى هذه الأيام، إذ أصبحت تصل إلى مصالحها الجشعة من طريق مندوبيها من حكام عملاء وسياسات ملتوية، يسمعون الناس سيمفونيات الديمقراطية وحقوق الإنسان، وفي الواقع ينهبون خيرات البلاد التي كانت مستعمرات لهم، فهم كما قال فيهم نهرو غاندي: "استعمار خرجوا من الباب وعادوا من النافذة"، أبقوا هذه البلاد مستعمرة سياسيًّا واقتصاديًّا، أسواقها مفتوحة لمنتجاتهم، ويتحكمون في سياساتها، ويحكمون السيطرة بطرق تعفيهم من الظهور بصورة المستعمر التقليدية إلى الصورة التي تبقيهم متحكمين بمفاصل البلاد الحساسة والوصول إلى كل مصالحهم فيها، وإذا لزم الأمر لبسط الهيمنة والهيبة والعربدة المطلوبة فإنها تظهر بصورتها الاستعمارية الأولى، وهذا ما طبق على سوريا بهذه التشكيلة الاستعمارية المفضوحة التي من المفترض ألا يختلف في شأنها اثنان.