مع استمرار تصدرها كأحد المحاور ضمن سياسة حجارة الرحى الدائرة في المنطقة، وزجّها على أساس ذلك ضمن عملية شد وجذب في إطار حالة الانهماك السياسي الإقليمي والدولي، تبقى فلسطين في الوقت عينه الاختبار الإنساني الكبير للدول وللمؤسسات الخيرية والإغاثية، يشتد صعوبة بشكل مضطرد بفعل حالة مرتبكة فرضتها تداعيات المرحلة على هذه الدول والمؤسسات.
إغراق الأراضي الفلسطينية، في دياجير التضييق، ومحاولات الخنق، تعد سياسةً وسلوكًا يمارسه الاحتلال مع كافة بقاع الأرض الفلسطينية، ففي الضفة الغربية جدار فصل عنصري يحيط بالمدن والقرى ويتسبب بعرقلة تنقل الفلسطيني في ربوع وطنه، ويحرمه من الوصول لأراضيه الزراعية، مما يخلق وضعًا اقتصاديًا واجتماعيًا تصعب معه الحياة الحرة الكريمة، وتتقطع معه سبل العيش، وحرية العمل لملايين الفلسطينيين في الضفة والقدس. وفي قطاع غزة حصار مستمر منذ أكثر من 12 عام، أدى لتجويع الفلسطينيين، وأهلك الحرث والنسل.
وقد كان الهدف من سياسة الاحتلال تلك منذ البدايات الوصول إلى ساعة الصفر التي يرفع فيها كل فلسطيني الراية البيضاء، ويتوب أمام محتله عن اقترافه ذنب تمسكه بكرامته وبعزته، وفي رغبته بأن يحيا حرًا كريمًا كباقي بني البشر.
طموحات أبناء الشعب الفلسطيني في الحرية والحياة الكريمة، كانت مستفزّة للمحتل الصهيوني الذي يتلذذ بمشاهدة عذابات مرضى غزة الممنوعين من السفر للتطبب، وفقرائها الذين يتضورون جوعًا، وشبابها الذين باتوا فاقدين للأمل في مستقبل آمن يخلو من تموجات السياسة التي تعبث وتلهو في أمنياتهم بحياة اعتيادية يستطيعون من خلالها ضمان عمل يؤمّن لهم استقرارًا أسريًا ونفسيًا.
تسلُّط الاحتلال بلغ مداه، مع استمراره منع الدواء والغذاء، وسبل العيش، عن أبناء القطاع لأكثر من عقد من الزمان، واعتداءات وحروب تشن ضد الغزيين من حين لآخر، فأي بقعة من الأرض بإمكانها تحمّل كل ذلك؟؟، وكيف يمكن لوم الضحية على عدم تخليها عن إنسانيتها والتنازل عن كرامتها، كي تحظى بصفة "العبودية" ذات الامتياز الذي يمكن أن يقربها من مستويات البشر؟؟.
وكيف يمكن لأي بشري حر ينصت لأنين المرضى والجياع دون أن تستدعيه أحاسيسه الإنسانية الفطرية في التعبير عن رفض حالة الظلم والاستهانة بمنظومة القيم الدالة على إنسانية الإنسان، سيما وأن التاريخ القديم منه والحديث يروي لنا تجارب دول عتيدة قائمة بذاتها وبإمكانياتها الكبيرة كدول، لم تصمد أمام حصار التجويع فترة طويلة، كالذي تعانيه غزة اليوم، وأدى إلى ما أداه من سلب لحق الحياة، والعيش بحرية وكرامة.
وفي الضفة الغربية والقدس حصار غير معلن، وإن كان واقعًا على الأرض، فحركة الفلسطيني مقيدة واستفادته من المرافق الحيوية كالصحة والتعليم يعاني فيها أبناء الضفة والقدس المحتلة المشقة، حيث يعاني القطاع الصحي كذلك ضغوطًا كبيرة أثرت على نوعية الخدمات المقدمة للمواطن الفلسطيني، ناهيك عن تقطيع أوصال المناطق الفلسطينية، ونصب الحواجز العسكرية التي تتعمد إهانة الفلسطينيين وتعرقل وصولهم للمرافق الخدمية، وأهمها الصحية.
وفي حين أن غزة "السجن الكبير" الذي تُنتهك إنسانية ساكنيه، فإن لأهل الضفة الغربية والقدس معاناتهم، حيث الاستهداف المباشر من جانب سلطات الاحتلال، من تنكيل وبطش، وتنكيد في العيش، وربط مصائر ومعيشة أهلها برغبات وإرادة المحتل، ويظهر ذلك جليًا في تبعية الاقتصاد الفلسطيني بالإسرائيلي، كي يسهل التحكم بالفلسطينيين، ويسهل تكريس جبروت المحتل وفرض إملاءاته.
وأمام هذا المشهد المتلبد بالبؤس والحرمان، والمزدحم بصرخات المرضى والمحتاجين، هل يستقيم الصمت مع سوية الإنسان الذي فطره الخالق -سبحانه وتعالى- على تقديم العون لأخيه المحتاج، وغرس فيه دافعية النهوض لنجدة أخيه من بني البشر، ولو بأضعف الإيمان، حتى وإن كان ذلك في ظل ظروف صعبة ومعقدة، فإن الإنسان لا يعفى من هذه المسؤولية.
وتدفعنا مسؤولياتنا الإنسانية في هذه المرحلة إلى السعي من أجل توظيف أدواتنا لإنقاذ أرواح المرضى في القطاع المحاصر، خاصةً وأن القطاع الصحي يعد من أكثر القطاعات تضررًا جراء الحصار، وهو الأكثر حساسية وأهمية، كونه ذو صلة مباشرة بحياة البشر وسلامتهم، وقد اتخم الحصار هذا القطاع بالكوارث والمصائب التي راكمت بعضها بعضًا طيلة سنوات الحصار الطويلة.
والصورة اليوم تبدو أكثر سوادًا مع اشتداد الحصار، والضغوط السياسية على غزة، فالعشرات من أصناف الدواء باتت مفقودة، وقد بلغ العجز أكثر من 45%، يماثله نقص في المستلزمات الطبية، والمختبرات وبنوك الدم، ما استهدف فئات عديدة من المرضى الذين هم بأمس الحاجة للدواء كمرضى السرطان وغسيل الكلى، والمناعة والأوبئة، والجراحة والعناية المركزة وحضانات الأطفال.. .
يضاف إلى تفاصيل هذه الصورة، ما تشهده المستشفيات من تعطل للأجهزة والمعدات الطبية، حيث تقدرها وزارة الصحة في غزة بـ 350 جهاز طبي من أصل 6100، تسبب إغلاق المعابر بالحيلولة دون صيانتها، مثلما حرم إغلاق المعابر مرضى غزة من الحصول على حقهم في العلاج بالخارج، ما أدى لوفاة المئات منهم، وأبقى الآلاف على قوائم المنتظرين للسفر.
ولا يقل ذلك خطورة من أزمة انقطاع التيار الكهربائي التي لا تزال تلقي بظلالها الكارثية على المرافق الصحية من مستشفيات ومراكز صحية التي اضطرت لاستخدام مولدات كهربائية، ومصادر بديلة للطاقة، سعيًا لاستمرارها في تقديم خدماتها، ما انعكس سلبًا على برامج إجراء العمليات الجراحية التي تقلصت نتيجة ذلك بشكل كبير خلال الأشهر الماضية، يقابل ذلك تدني إمكانيات الطواقم الطبية التي منعها الحصار من الالتحاق بالبرامج والدورات التدريبية التخصصية والمؤتمرات العلمية التي من شأنها رفع مستوى وقدرات الخدمات الصحية في القطاع.
وأمام هذه المعطيات، كان لا بد من التفكير بوسائل يمكن من خلالها العمل بشكل منظم وفاعل، وبما يجمع شتات مؤسسات العمل الخيري للقيام بدورها المأمول منها، بهدف تقديم أداء إنساني عالي الجودة والقدرة والمهنية، وبما يخدم القطاع الصحي في فلسطين، ويوصل الدعم لمستحقيه من المرضى والعجزة من خلال تنفيذ مشاريع نوعية ذات جدوى كبيرة.
ولأن مؤسسات العمل الخيري والإنساني هي صدى نبض المكلومين في فلسطين، فإن الحرص عظيم لإدامة هذا النبض وإمداده بأشكال الحياة كي لا يتوقف، لتنضج معها فكرة إطلاق مؤتمر "فلسطين.. لن يتوقف النبض" لدعم القطاع الصحي في فلسطين، والهادف لتوحيد جهود المؤسسات الإنسانية من أجل إنهاء الحصار الجائر على القطاع، وتقديم الدعم الطبي اللازم للمرضى في الضفة الغربية والقدس، وقطاع غزة.
ويكرس المؤتمر، المقرر عقده في بيروت، من 19-20 نيسان / إبريل 2018 تحت رعاية سماحة الشيخ عبد اللطيف دريان، مفتي الجمهورية اللبنانية، برنامج أعماله لبحث تبني المشاريع الأكثر إلحاحًا بالنسبة للاحتياج المتزايد للقطاع الصحي في فلسطين، ومن ثم المباشرة بتنفيذها.
كما أن الطموحات كبيرة بإعادة الزخم لمنهجية العمل المؤسسي الخيري في دعم غزة، بغية تنفيذ مشاريع نوعية، وانجازات على الأرض تُحدث تغييرًا واضحًا في تطوير أداء القطاع الصحي، ويلمس أثرها أهالي غزة، حيث من المقرر أن يتم بحث تنفيذ مشاريع ذات أهمية كبيرة كمشروع "صندوق المريض الفقير"، الذي يهدف للمساهمة في إجراء العمليات مجانًا للمرضى الفقراء، ومشروع "توفير الوقود اللازم لتشغيل غرف العمليات ووحدات العناية المكثفة"، ومشروع "تزويد وحدات العناية المكثفة والعمليات بالطاقة البديلة (الطاقة الشمسية)"، وغيرها من المشاريع التي تبرز الحاجة لها استنادًا لدراستنا لحاجات القطاع الصحي في غزة، بالتنسيق مع وزارة الصحة الفلسطينية، والمؤسسات الصحية في القطاع.
على الرغم من إدراكنا لما تشهده المرحلة من كثافة الالتباسات، إلا أن غايات المؤتمر إنسانية صِرفة ديدنها إنقاذ أرواح مهددة بالموت نتيجة نقص الدواء، وتعذر العلاج، وعلى أساس ذلك ندعو كافة مؤسسات العمل الخيري والإنساني للانخراط والمشاركة في هذه الجهود النبيلة والمباركة، من أجل إنهاء معاناة وعذابات المحاصرين في الأراضي الفلسطينية.
ولاعتبارات أن لعمل الخير مسؤوليات إنسانية يضطلع بها من تقديم العون للمحتاج، وإغاثة الملهوف، أينما كان، فإن من واجباته كذلك أن يشق طريقه إلى مستحقي الدعم من أبناء الشعب الفلسطيني، وأن لا يتركهم للمجهول، وأن يخرجهم من دائرة النسيان والتجاهل والإنكار، حتى وإن كان هنالك ثمة غبار سياسي أو "مصالحي ضيق" يحجب الرؤيا عن الهدف الإنساني.