لا يمكن التقليل من أهمية قرار مجلس الأمن الدولي الداعي لوقف الاستيطان الإسرائيلي في الضفة الغربية لمجرد أن إسرائيل رفضته، ولا لكون الإدارة القادمة في أميركا ستدير ظهرها له. فهو قرار تاريخي مفصلي لجملة أسباب، بعضها يأتي من سياق قرارات مشابهة، وبعضها يأتي من السياق السياسي المستجد، وبعضها يأتي من السياق القانوني الدولي والشرعية الدولية الذي شهد نقلة نوعية واعدة في الألفية الجديدة لم تؤت بعد أكلها.
والقضية الفلسطينية رغم "يُتمها" (الوصف لكاتب إسرائيلي عن شعور الفلسطينيين بعد محاولة مصر تأجيل التصويت على مشروع القرار الذي كانت تقدمت به هي كممثلة للعرب في مجلس الأمن) وفّرت حالة إجماع دولي غير مسبوق في مواجهة إسرائيل.
والإجماع يبدأ بكون أربع دول أعضاء في مجلس الأمن من جهات العالم الأربع تبنت القرار من فورها وطرحته للتصويت، وأن أربع عشرة دولة عضوا في المجلس (الأعضاء العشرة الممثلون الجيوسياسيون لمختلف مناطق العالم وأربع من الدول الخمس الدائمة العضوية فيه) وافقت عليه، بمن فيها بريطانيا التي زرعت إسرائيل في أرضنا ابتداء، وأن الولايات المتحدة امتنعت عن التصويت ولم تستعمل حق النقض.
وهذا يساوي إجماعا "سياسيا" عالميا على اعتبار المستوطنات وممارسات ومزاعم إسرائيلية عديدة أخرى ترافق الاستيطان -أو بالأحرى الاستيطان نابع منها- كلها غير شرعية بل ومجرّمة.
ولا يفرق كثيرا أن دونالد ترامب الرئيس القادم لأميركا له موقف مختلف، فالرئيس الأميركي المنتخب شكل انتخابه ذاته -وليس فقط برامجه وخطاباته- إشكالية غير مسبوقة عالميا وداخل أميركا ذاتها، إلى درجة أن جرت مظاهرات ضده، وجرى بعدها تشكيك محلي ودولي في تدخلات غير شرعية أدت لذلك الفوز.
وهنالك شك في إمكانية تطبيق ترامب لما أعلنه من سياسات أثناء حملته، وبعضها عاد عنه جزئيا حتى قبل توليه المنصب. ولكن حتى إن بقي بعض سياساته كما أعلن فنتائجها غير قابلة للتوقع، وقد تغير نتيجة الانتخابات الرئاسية القادمة. ولكن لو كانت كلينتون فازت -أو ستفوز بعد أربع سنوات- فهي ليست ساندرز، وسياساتها تجاه منطقتنا لم تكن ولا يتوقع أن تكون أقل ميلا لـ(إسرائيل).
بمعنى أن التغيير الذي جرى في موقف أميركا هو إنجاز لأوباما بشخصه الذي بقي على إدانته للاستيطان منذ بداية حكمه، وسبق له أن حجّم نتنياهو بطريقة غير مسبوقة أميركيا. ومجيء أوباما للحكم ابتداء هو أحد أسباب وأيضا إحدى نتائج سلسلة تغييرات عميقة جرت في الألفية الجديدة، وتؤشر لمرحلة جديدة.
ولكن الأهم بالنسبة لموضوعنا هو التغييرات الكبرى في منطقتنا وجوارها الأوروبي والمتوالية لحينه، وقد أثرت كثيرا في السياسة العالمية. وهو ما انعكس جزئيا على موضوعنا وتجلّى في تصويت بريطانيا وفرنسا لصالح رفض الاستيطان، ولكنه تجسد بصورة أعمق في توقيع دول مجموعة "5+1" على الاتفاقية التي أبرمها أوباما سرًا مع إيران.
فهذه الاتفاقية تعكس تلاقي الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن -إضافة إلى ألمانيا- مع سياسة أوباما في منطقتنا بدرجة عالية. وحتما لو عادت إدارة ترامب عن ذلك الاتفاق فإن بقية الموقعين لن يعودوا عنه، مما سيجعل خسارة أميركا السياسية والاقتصادية والمالية (والأخيرة أكثر ما يهم ترامب وفريق إدارته) كبيرة لكونها عزلت نفسها.
ويغلبُ أيضا في حال نقلت أميركا سفارتها من تل أبيب إلى القدس ألا يفعل الأوروبيون ذلك، وقد لا تفعله بريطانيا ذاتها. فسياسات اليمين المتطرف في إسرائيل أصبحت تشكل عبئا متناميا بل وخطرا على أوروبا والغرب عامة. وهو ما أدى لارتفاع أصوات إسرائيلية عديدة تحمل نتنياهو بشخصه واليمين المتطرف عامة تبعات ما بات يلحق بإسرائيل، ومنه قرار مجلس الأمن الأخير هذا.
وبداية يجب التذكير بأن "الشرعية" تعبير قانوني وليست قرارا موسميا قابلا للتغيير في موسم آخر حسب "حالة الطقس" السياسي. وفي حين تمثل محكمة العدل الدولية السلطة القضائية للأمم المتحدة، وتبدي رأيها وحكم القوانين والمواثيق الدولية فيما يحال إليها، فإن مجلس الأمن يستطيع أن يصدر قراراته كبيان لموقف سياسي.
وبدهي أنه لا يجوز لقرارات مجلس الأمن أن تخالف أحكام القوانين الدولية التي تصدر عن محكمة العدل الدولية التي هي الذراع القضائية للأمم المتحدة وقامت معه، وهو ما يجعل "الفيتو" أقرب لاستعمال سلطة "منع المحاكمة" وليس التبرئة. وما فعله أوباما -إذ التزم بمواقفه من الاستيطان الإسرائيلي- هو رفض منع محاكمة إسرائيل سياسيا على جرائم الاستيطان.
ولكن يستطيع مجلس الأمن أن يجعل قراراته ليس فقط سياسية بل أحكاما "إلزامية"، بإصدارها استنادا للبند السابع الذي يتيح عقوبات في حالة عدم التنفيذ، تبدأ بوسائل مقاطعة وضغط متنوعة لتصل إلى التدخل العسكري لفرض التطبيق، والأخير غير متوقع توظيفه ضد إسرائيل في المدى المنظور.
ولكن أيضا من غير المتوقع أن يتم التحرك لخوض حرب إلى جانب أو نيابة عن إسرائيل, كما حدث في غزو واحتلال العراق المعترف أميركيا ودوليا بكونه "خطأ إستراتيجياً" تاريخيا.
وهذا أحد أسباب إعلان ترامب ليس فقط أنه لن يخوض حربا جديدة، بل هو يريد مقابلا ماليا "للحماية" التي يوفرها وجود قوات وقواعد عسكرية أميركية خارج أميركا، بما فيها قواعد في "الناتو" الذي يعتبره عبئا. وهو قول جاد لكون ترامب "رجل أعمال" وفاز بوصفه كذلك. وهذا ما تعرفه إسرائيل الدولة المرعية اقتصاديا وعسكريا وحتى دبلوماسيا. ولهذا أيضا ارتفعت الأصوات الإسرائيلية الغاضبة من نتنياهو فور صدور قرار مجلس الأمن الأخير.
إدانة الاستيطان الإسرائيلي لم تقتصر على القرارات السياسية لمجلس الأمن، بل صدرت أيضا عن محكمة العدل الدولية حين أحيلت لها قضية بناء إسرائيل لجدار عازل حول مستوطناتها، فجاء حكم المحكمة مدينا للجدار باعتباره "جريمة فصل عنصري"، ومدينا أيضا للمستوطنات باعتبارها جريمة تخرق اتفاقية جنيف الرابعة في أكثر من بند فيها.
وكلتا الجريمتين من اختصاص محكمة الجنايات الدولية. وإذا أضيف لهما من تقتلهم إسرائيل لكونهم تظاهروا أو اعتصموا لمنعها من مصادرة أراض لفلسطينيين وهدم بيوتهم بغرض الاستيطان، فإن هذا القتل الممنهج وبأعداد كبيرة يرقى إلى جريمة "إبادة" تضاف للجريمتين السابقتين.
ولكن المشكلة هنا هي في "يُتم" فلسطين وشعبها إلا من عطف بعض الدول العربية غير المتعاطف معه من بقيتها الأخرى الأقدر على التأثير في حال الأرض المحتلة وأهلها، ومثله عطف بضع دول إسلامية أو أميركية لاتينية ما زال فيها إرث من عهود الثورات على "الإمبريالية العالمية".
أما السلطة الفلسطينية ذاتها فرغم أن فلسطين أصبحت عضوا في المحكمة الجنائية الدولية منذ عام كامل مما يؤهلها لرفع قضية ضد إسرائيل، فإنها لم تسجل "قضية" لدى تلك المحكمة، بل اكتفت بتقديم وثائق بما يجعلها مجرد شاهد..، وكانت قبل ذلك تتغطى بكون الأردن سيقدم القضية وأنه لم يفعل!
ولو قُدمت قضية فإن إسرائيل كانت سيُحكم عليها حتما بارتكاب تلك الجرائم، وكانت ستصدر إدانة بحق شخوص ممن مارسوا تلك الجرائم أو أمروا بها، ودونما حاجة لقرار مجلس الأمن الأخير..، وإن كان القرار سيحفز إصدار حكم كهذا.
وبالنسبة لمجلس الأمن فهو سلطة تتمسك الدول الخمس الكبرى بعضويتها الدائمة فيه، كما بحق نقض قراراته من طرف كل دولة بمفردها ولو وافق عليه الأربعة الآخرون ومعهم الأعضاء العشرة غير الدائمين، وهو ما كان متوقعا أن يحدث للقرار الأخير.
لكن هيبة هذا المجلس -المعروف بأنه يجسد إرادة الخمسة الكبار أكثر مما يجسد حتى الإرادة الدولية- باتت تتراجع بصور مهينة لهؤلاء الكبار وكل ما يزعمون تمثيله، أمام عنجهية دولة صغيرة بلا غطاء شرعي وقامت ولا تزال دولة "مرعية" ماليًا وعسكريًا وسياسيًا ودبلوماسيًا، بدرجة تجعلها الثقب الأسود الذي يبتلع كل هذا الدعم بلا مقابل.
فإسرائيل توقفت عن كونها الذراع الغربية في المنطقة. وثبت تحديدا في حربيْ الخليج أنها الخاصرة الطرية لجحافل الجيوش الغربية والأحوج للحماية، وهو ما رفع كلفة الحربين عسكريا وسياسيا، والأهم الآن أنها تساهم برفع المخاطر "الأمنية" ليس فقط في المنطقة العربية، بل وصولا إلى قلب المدن الأوروبية وعلى مشارف أميركا.
الحكم تلزمه الهيبة؛ وبعد سلاسل قرارات مجلس الأمن "ذات الصلة" ووصول نتنياهو لدرجة من الغطرسة، بحيث يصف أحدث قرار لممثلي بل حكام العالم -وعلى رأسهم الدول الراعية لدولته- بأنه "مخزٍ ولن نمتثل له". هنالك مثل شركسي يقول: "عندما تقترب نهاية النمل.. تظهر له أجنحة"!