من المعروف أن الوضع الطبيعي للطفل العالمي أن يعيش طفولته وأن يستمتع بكل لحظاتها، أن يلبس كمامة السباحة في الصيف فيسبح ويلهو كما يحلو له، أن يكون فراشة مع فراشات الربيع فيزهو معها ويقفز في ربوع السهول الجميلة ويعلو مع الجبال الراسية صاعدًا نحو قمتها ونازلا إلى وديان الأرض الخصبة المكتظة بالعشب والأزهار والحياة البديعة، الطفولة جميلة بريئة خضرة نضرة لا تعرف إلا الحب والسلام ورحيق البرتقال.
إن الذي جعل طفلا فلسطينيا يقرر الابتعاد عن نهج الطفولة المعروف عالميا من لهو ولعب وترفيه إلى أن يضع بصلة أمام أنفه، هو أولا: أنه لا يريد أن يشم رائحة الاحتلال، لقد زكمت هذه الرائحة الكريهة أنفه وملأت صدره مما دفعه لاختيار رائحة البصل بديلا لها رغم كراهة هذه الرائحة، ولم يكتف الاحتلال برائحته الكريهة وإنما أضاف لها روائح الغاز المريعة فكان هذا الإبداع من هذه الطفولة البريئة، كمامة وبصلة يقاوم بها رائحة الاحتلال.
ثانيا: جاء الطفل هذا من أبوين تجرعا مرارة الاحتلال وأترعت صدورهما من رائحته الكريهة على مدار عدة عقود ومن قبلهما انتقلت الرائحة من جدي الولد، قاموا بالتطهير العرقي لمدن وقرى سكنها الأجداد، طردوهم بتآمر دولي بغيض وسكنوا بيوتهم وزرعوا حقولهم، قطفوا برتقالهم وقذفوا بهم على قارعة الأمم لتجود عليهم بفتات كرت المؤمن وبطاقة اللاجئين، كم سمع هذا الطفل من زفرات وحسرات الأجداد، خرج من رحم هذا الألم النازف، قرأ الجريمة ورواية البؤساء مرتسمة في وجوه كل من حوله، ترعرع في المسافة الواقعة بين الحنين للماضي وجرائم ذات المجرم التي تصر على رسم المستقبل الأسود للأجيال القادمة، لا تريد لطفل ولا امرأة ولا أي إنسان فلسطيني أن يتنفس بحرية أو أن يعيش بكرامة.
ثالثا: وكانت مسيرة العودة التي أخرجت كل المشاهد المخزّنة في هذا الصدر الصغير، انطلق مع المنطلقين وفكر كيف يبدد مخاوف المرجفين، عرف كيف ينتصر على خوفه، كيف يتغلب على براءته التي تريد اللهو واللعب، تحسّس معالم رجولة باتت تتحرك في أوصاله، تحولت وجهته من الملعب إلى الوطن ومن اللهو إلى جد الرجال، لم يعد في فلسطين وأمام رائحة الاحتلال الكريهة أي متسع للطفولة، أثمرت طفولة فلسطين رجالا، يفكرون ويبدعون ويتحركون ويقاومون.
ثم يأتي من يقول إننا حملنا طفولتنا ما لا تحتمل، لا يا سادة يا كرام، رائحة الاحتلال العفنة هي التي أخرجت الرجولة من قلب أطفالنا، هل رأيتم في العالم وعلى مر التاريخ كله من يقذف المتظاهرين بمياه عادمة، فعلا هذا هو إناءهم ينضح بما فيه.. إنها رائحتهم الكريهة، لم يتركوا غازا ساما وكريها إلا قذفوه بنا، لم يكتفوا بكل الجرائم التي ارتكبوها في حقنا منذ نكبة 48، القتل والتشريد والمجازر والاعتقال وسرقة كل ما هو جميل في حياتنا، هل هناك ما يسكن من آلام أطفالنا قبل كبارنا؟ هل هناك ما يطفئ ظمأنا لحريتنا؟ هل هناك ما يسد الانتهاك الصارخ لكرامتنا؟ هل هناك من يعيد لأطفالنا طفولتهم المعتدى عليها؟
الطفل الفلسطيني يبدع وينتصر على رائحة الاحتلال الكريهة ببصلة يعلقها أمام أنفه.. الطفل الفلسطيني أول من قذف الاحتلال بالحجر.. الطفل الفلسطيني قادم من قريب ولن يصده عن موطن أجداده لا دبابة ولا مجنزرة ولا طائرة محملة بقنابل الفسفور وصواريخ الموت والدمار.. إنه قادم إليكم ولن تصده رائحتكم الكريهة، من البصل والحجر إلى صراع الأدمغة وقوة الحق حتما سينتصر.