فلسطين أون لاين

​الشهيد "بني فضل".. بين العيش بحب الأرض والموت على ثراها

...
الشهيد عبد الرحمن بني فضل
غزة - يحيى اليعقوبي

رغم بعد المسافة وتضييق الاحتلال لم يكن الحب الذي جمع الشهيد "عبد الرحمن بني فضل" بالمسجد الأقصى عابرًا أو عاديًّا، بل هو حب بدأ بتعلق قلبه به، وجسده على أرض الواقع بالاتصال الدائم وعدم الانقطاع عن زيارته والتواجد في رحابه، وبين أسواره، حتى انتهى هذا التعلق برسالة كتبت بدماء الشهيد أراد منها أن يوصل رسالة للعالم أن المسجد الأقصى للفلسطينيين ولا يمكن أن يكون لأي قوم غير العرب والمسلمين، كيف لا وهو الذي كان يقول: "إما أن نعيش بحب أرض وإما نموت على ثراها".

الثامن عشر من آذار/ مارس الجاري يوم فارق عاشته عائلة "بني فضل" التي تسكن في قرية عقربا قرب مدينة نابلس شمال الضفة الغربية مع ساعات الظهير أوصل ماهر بني فضل نجله عبد الرحمن 28 عامًا إلى موقف السيارات المؤدي من نابلس إلى القدس.

"شو رأيك تأجلها لبكرا"، سأل الوالد نجله نظرًا لوجود مناسبة اجتماعية للعائلة، لكن بلوعة العاشق ولهفة المحب أصر عبد الرحمن على المغادرة للقدس قائلًا لوالده "إني مشتاق للصلاة بالمسجد الأقصى".

بعد ساعتين اتصل الوالد على عبد الرحمن واطمأنّ على وصوله للقدس، ومرت الدقائق بعد ذلك حتى كانت العائلة مع حدث كان مفاجئًا بالنسبة لها بورود اسم عبد الرحمن شهيدا على وسائل الإعلام، ثم اتصال شرطة الاحتلال على العائلة الأمر الذي شكل تأكيدًا لدى العائلة باستشهاد نجلها، بعد طعنه لحارس أمن إسرائيلي وإصابته بجراح بالغة الخطورة في البلدة القديمة بمدينة القدس المحتلة، فارتقى شهيدًا على إثر إصابته بعدة طلقات نارية بعد تنفيذه لعملية الطعن.

عقب هذه العملية البطولية، جاءت مخابرات الاحتلال لبيت الشهيد بمدينة نابلس، وأخذوا قياسات للمنزل تمهيدًا لهدمه، أحد الضباط خاطب والد الشهيد قائلًا: "أنت أرسلته، أنت ستتحمل المسؤولية"، والد الشهيد أمام هذا الاستفزاز: "بل أنتم من يتحملها لاستفزازكم له وللفلسطينيين".

ما قبل العملية

قبل ثلاثة أيام من تنفيذ العملية، كما يروي شقيقه أسامة لصحيفة "فلسطين" دار حوار مع شقيقه الشهيد إذ لم يظهر عليه أي علامات تشير إلى نيته تنفيذ عملية، هذا الحوار كان كوداع بين عبد الرحمن وأسامة الذي كان من المقرر أن يذهب لأداء مناسك العمرة وأوصاه بالدعاء له، ولم يعلم شقيق الشهيد أنه هو الذي سيبقى وشقيقه عبد الرحمن سيسافر.

يبدي أسامة فخره بالشهيد: "كان الشهيد شخصية ملتزمة من حفظة القرآن الكريم، وهو أب لثلاثة أبناء دائمًا يحرص أن يعلم ابنه التعاليم الدينية بطاعة الوالدين، والاقتداء بالنبي كمنهج حياة في الشرب والأكل والصلاة والتحدث مع الآخرين".

ولشدة تعلقه بالمسجد الأقصى أمضى عبد الرحمن وقتًا كبيرًا وهو يبحث عن عمل في البلدة القديمة، يجوب شوارعها وأزقتها آملا أن يجد فرصة عمل هناك ليرى الأقصى والقبة الذهبية أمامه لتطفئ نيران شوقه وتعلقه.

ويواصل شقيقه: "لم يجد عبد الرحمن فرصة عمل، لكنه ظل محافظًا على الذهاب للصلاة بالأقصى على الأقل مرة واحدة في الأسبوع، إضافة لقضاء العشر الأواخر من رمضان في رحابه".

حينما يكون الأشقاء في سنّ متقاربة فإنهما يكونان أخوين وصديقين، تجمعهما الألفة والمحبة، هكذا كان الشقيقان عبد الرحمن وأسامة، ويقول الأخير: "رغم أني أكبر بسنة واحدة من عبد الرحمن لكنه كان رفيق دربي منذ الطفولة، وكان من الأطفال الذين يتركون أثرًا عند الناس بحركاته وكلامه الذي يفوقه سنه، وأدبه وأخلاقه وحرصه على تطبيق الفرائض والسنن، حتى كبر وتطوع إمامًا بالمسجد القريب من بيتنا".

"اللهم أحينا حياة السعداء وأمتنا ميتة الشهداء"، كان هذا الدعاء من الأدعية التي يشعر شقيق الشهيد أن عبد الرحمن كان يقولها ويعمل لها حتى نال الشهادة.

في الشهر الأخير له رزق عبد الرحمن بطفل أسماه على اسم والده "ماهر"، بنبرة صوت تزاحمت بها مرارة الفراق بالابتسامة يواصل شقيقه: "كوني أكبر إخوتي سنًا كنت مصرًا على أن يكون اسم ابني البكر على اسم والدي، إلا أن شقيقي وبعد أن رزق بمولوده الثاني أراد أن يسميه على اسم والدي فرفضت، وفي المولود الثالث أصر أن يسمي نجله على اسم والدي فوافقت، فكان مصرًا على نيل رضا والديه".

وامتاز الشهيد منذ صغره، ولا يزال الكلام لشقيقه، بذكائه الحاد وسرعة بديهته وشخصيته القوية، كان لديه موهبة بكتابة الشعر ونظم قصائد وأبيات شعرية، تتحدث عن طاعة الله، والشهادة والجنان، ودائمًا ما يلقيها في الجلسات والمناسبات العائلية ومن تلك الأشعار:

تخاطَر في الفؤاد عميق فكر ** كمرآة لتعكس ما تراها

وأطرَق خافق عذبًا جميلًا ** كما تعطي الثريا محتواها

وأنشد موطني أبيات عز ** تنادي مسلمًا هو مرتجاها

وأصبحت الحياة لذيذ عيش ** لإنسان بحب قد سقاها

فإما أن نعيش بحب أرض ** وإما أن نموت على ثراها

تعلق الشهيد منذ ريعان شبابه بالمسجد الأقصى، ينتقي شقيقه أحد المواقف حينما كان الشهيد في الثانوية العامة ولم يكن حينها حاصلًا على تصريح إسرائيلي للدخول للأقصى، ويواصل: "حينما حاول القفز عن جدار الفصل العنصري الإسرائيلي وأصيب آنذاك بقدمه لعدة أسابيع".