فلسطين أون لاين

أم جبر.. بائعة فراولة تنثر الحُبّ على المفرق

...
غزة - حنان مطير


تخرج الحاجة أم جبر العطار (70 عامًا) من بلدة بيت لاهيا شمال قطاع غزّة يومياً، حاملةً صناديق الفراولة الطّازجة على عربة "كارو"، لتستقر بحمولتِها على مفرق شارعيّ الشهداء وفلسطين في غزّة.

يستقبلها جارُها صاحب أحد المحال التّجاريّة المجاورة لنقطة بيعِها ويساعدها في تنزيل الصناديق وترتيبها، فعمرها الكبير لم يعد يحتمل ذلك، فتقابله بابتسامة ودعوة، تقول الحاجة العطار لـ"فلسطين": "قبل عدة أشهر أجريت عملية غضروف بسبب الحمل الثقيل الذي اعتدتُ على حمله طوال سنين عمري، مثل الكثير من النساء في مجتمعنا، والحطب أكثر ما كنت أنقله من الغابة على كتفيّ ورأسي، لكنني اليوم لم أعد قادرة على ذلك".

تضع العطّار ثمار الفراولة في صينية كبيرة، وتجمعها فوق بعضِها كجبلٍ صغير، قبل أن تصفّ حبّات الفراولة الحمراء الطازجة واللامعة على سطح الصينية لتجذب بها الزّبائن.

ذلك المشهد يتكرّر كل موسم فراولة منذ ما يقارب السبع سنوات كما تقول، وتضيف: "العمل يا ابنتي ضروري لكل مواطن في غزّة، فالحالة التي نعيشها صعبة جداً، الشباب تتخرج من الجامعات وتبقى بلا وظيفة، ومن كان يمتلك وظيفة فقدها اليوم أو خُصِم من راتِبِه، فبات توفير لقمة العيش كالحفر على الصخر".

أصابع الحاجة صُبّغت بلون الفراولة الحمراء الورديّ لكثرة ما تنظّم الثّمرات وترتبها لتبدو بشكل جميل، وحين تجوع تصبّر معدتها بحبةٍ أو اثنتين-كما توضح- حتى يأتي الليل وينفذ بيعُها.

أما إفطارها، فتتناوله برفقة ابنها وحفيديها، تروي: "أشتري الفراولة من المُزارع بمبلغ يقارب 200 شيكل، في تمام الساعة السادسة صباحاً، وفي الطريق إلى غزّة نتناول إفطارنا خبزاً ورشة دقّة أو زعتر".

تُخبرنا أن الجِلسة الطويلة تُرهقها وكذلك ضجيج السيارات والمناداة على المّارة، فكلّ من يمرّ أمامها تشير إليه وتطلب منه أن يشتري من الفراولة التي تَصِفُها له بأنها حلوة كالعسل، وأنه لن يندم أبداً إن اشترى منها.

عُمرْ أم جبر السبعون لم يكفل لها أن تجلس باقي حياتها وتمضيها في راحةٍ وسكينةٍ ببيتٍ هادئ كسيدات العالم، فهي تعيش مع ابنةٍ مطلقةٍ وطفليها الذي يعاني الصغير فيهما من أزمةٍ في صدرِه، وكلهم يعيشون في "بيدروم" فيما تعتلي "ضرّتها" الدور الأوّل وفق قولِها.

وتضيف: "السنوات تمرّ بسرعة، ولم يتبقَّ من العمر قدر ما مضى يا ابنتي، الله يحسن حالنا وخاتمتنا".

وتمضي العطّار يومها تارةً تنادي على المارّة ليبتاعوا من ثمار الفراولة، وأخرى تنادي على حفيديها الذين تصحبهما معها فيشاكسانها في كثير من الأحيان، وبين هذا وذاك تسبح الله وتستغفره.

توضح: "وقت الصلوات أترك الفراولة يهتم بها ويحافظ عليها جاري صاحب المحل الذي أدعو له بالتوفيق دوماً، فهو غير مجبرٍ على مساعدتي أو تعطيل عمله بسببي".

وتروي: "أذهب للصلاة في المسجد القريب جداً، فيلين ظهري وتتحرّك ساقايَ المتيبستان اللتان تتورمان من طول الجِلسة على الكرسي الخشبي هذا".

موسم الرزق

إنّ حاجة أم جبر للعمل والإنفاق على ابنتها وحفيديها تجبرها على عدم التوقّف عن العمل، حتى وإن تعبت أو ملَّت، تقول: "موسم الفراولة هو أهم موسم في السنة بالنسبة لي، إنه رزقي الأساس".

أما ابتسامتها التي لا تفارقها، فتقول عنها: "الابتسامة تجلب لي الحظ وتجعلني أكسب قلوب المارّة، لقد بات الكثيرون يعرفونني ويحبونني ويشترون مني دوماً، فالعابس لا يحبّه الناس بل ينفرون منه".

لكن أكثر ما يؤذيها كثرة مشاكلها مع البلدية، قديماً وحديثاً، وذلك حين تطلب منها ترك المكان، لأنه ليس مخصصاً للبيع -وفق حديثها- في حين ترى أن سرّ رزقها وحياتِها يكمن في ذلك المكان.

وتصف: "ذات مرةٍ أخذوا مني الميزانوسعره (أربعمائة) وتقصد 40 شيكل، ليرغموني على عدم العودة للبيع في ذلك المكان، بكيت كثيراً وألقيت بنفسي في سيارتهم، لكن دون جدوى، أمضيت يومي حزينةً لولا المارّة والجيران الذين كفكفوا دموعي وساعدوني".

ألوان أصابع الحاجة أم جبر المصبوغة بلون ماء الفراولة الحمراء لوّنت قلبي بكل ألوان الحبّ وأنا أمرّ بسيارة الأجرة من أمامِها فاستدعت قلبي للنزول والحديث معها، وكم كانت ابتسامتها جميلةً وحديثها العفويّ طيباً وهي تهشّ الفراولة خشية أن تغزوها ذبابةٌ.

طابت لي ثمراتُها فاشتريت بعضاً منها، ثم سلّمت عليها وودّعتها وأخبرتها أنها ستُزيّن صحيفة "فلسطين" هذا اليوم.