تمضي الإدارة الأمريكية من خلال قراراتها ومواقفها إضافة لتصريحات مسؤولين فيها قدماً في الاستخفاف المتعمد في طموحات وآمال الشعب الفلسطيني في التحرر من الاحتلال، بل وفي كرامته الإنسانية من خلال الاستهانة بتضحياته ودماء أبنائه التي بذلها طيلة عقود مضت من تاريخ مأساته بسبب الاحتلال.
وباتت الولايات المتحدة من خلال مواقفها الأكثر تطرفاً في المشهد السياسي الإقليمي والدولي-دون مبالغة- خطراً على السلم الدولي، حيث يظهر ذلك جلياً في التحيز الأعمى للاحتلال الصهيوني، والذي من أجله ضربت إدارة ترامب عرض الحائط بالمبادئ التي قامت عليها الولايات المتحدة، وبتاريخها السياسي الذي كان يعلن دوماً عن سعيه للعب دور متوازن في الوساطة في عملية السلام، إضافةً لضربه للقوانين الدولية التي أقرتها الأمم المتحدة ومن قبلها عصبة الأمم المتعلقة باحتلال الأراضي بالقوة.
فقد كان اعتراف الإدارة الأمريكية الأخير، بالقدس عاصمة لـ(إسرائيل)، تجاوزاً للكثير من الخطوط الحمر، تمثل في خرق الأعراف والقوانين والقرارات الدولية ذات الصلة، في الوقت الذي ينص ميثاق الأمم المتحدة على "حظر حيازة الأرض بالقوة".
كما يمثل القرار الأمريكي انتهاكاً للحقوق التاريخية للشعب الفلسطيني في أرضه ومقدساته، وانقلاباً للولايات المتحدة حتى على ذاتها، إذا ما علمنا بأن إعلاناً لواشنطن عام 1991 تضمن على أن الوضع النهائي للقدس يجب أن تقرره المفاوضات، إضافة إلى أن "الولايات المتحدة لا تعترف بضم (إسرائيل) للقدس الشرقية أو توسيع حدودها البلدية".
ويتعدى الاعتراف الأمريكي بالقدس عاصمة لـ(إسرائيل)، مرتكزات سيطرة "طغمة" من المسؤولين الأمريكيين الذين يحملون إيديولوجيا موالية لـ(إسرائيل)، يحيطون بالرئيس ترامب، فضلاً عن حسابات الرئيس الأمريكي الداخلية، حيث يعتقد بأن القرار يعزز من شعبيته بين قاعدته الانتخابية من جماعة اليمين، بينما تتآكل شرعيته بسبب الأزمات والفضائح المتتالية، يتعداه إلى احتمالات تغيير الذهنية الأمريكية وطريقة تعاطيها السياسي مع العديد من الملفات في المنطقة من أهمها القضية الفلسطينية، ومخططات تصفيتها التي باتت تعرف بـ "صفقة القرن".
ملامح المرحلة "الترامبية" الجديدة لم تبدأ مع إعلانه القدس عاصمة لـ(إسرائيل) بل سبقته قرارات يمكن اعتبارها علامات لبداية بلورة هذه المرحلة، من بينها قرار إغلاق مقرات منظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن، إضافة لتأييد قرار مجلس النواب الأمريكي الذي صوّت بالإجماع على تبني قانون بوقف المساعدات الأمريكية للسلطة الفلسطينية ما لم تعمل الأخيرة من جانبها على التوقف عن دفع رواتب شهرية للأسرى وأسر الشهداء، وقبل هذا وذاك إغماض الرئيس الأمريكي عينيه عن مخططات الاستيطان المحمومة التي "انتعشت" أكثر وأكثر مع تولي ترامب سدة الرئاسة، حيث التقطت حكومة اليمين الإسرائيلية الرسالة بأن الرئيس الجديد سيسير معها في "جنازة" حل الدولتين دون تردد.
تستمر الإجراءات الأمريكية التي وصلت لدرجة التوحد والتماهي مع المحتل الجلاد ضد الضحية، بعدما اتخذ ترامب قراره بتخفيض حجم المساهمة الأمريكية في تمويل وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، لدرجة أخلّت في قدرة الوكالة على الاستمرار في وتيرة عملها بتقديم المساعدات الإنسانية من تعليمية وصحية وإغاثية لملايين اللاجئين الفلسطينيين الذين يعتمد غالبيتهم على هذه المساعدات بشكل أساسي في تأمين احتياجاتهم الأساسية للحياة.
ينسحب على ذلك طريقة أداء المسؤولين الأمريكيين المعنيين بعملية السلام في التعبير عن الذهنية الأمريكية الجديدة، فبدلاً من أن يتولى ممثل الرئيس الأمريكي للمفاوضات الدولية، والمعني بالتركيز على الصراع العربي الإسرائيلي، جيسون غرينبلات، دوره في تقريب وجهات النظر، والوقوف على مسافة متساوية من أطراف الصراع، بهدف التوصل إلى حل سلمي، يغلب على المسؤول نمطية التفكير "المأدلجة" والمنحازة لدولة الاحتلال، والرواية الصهيونية.
ويصل غرينبلات في تحيزه لـ(إسرائيل) حد التبرير لبناء سلطات الاحتلال للمستوطنات، ويرى – وعلى لسان رئيسه- خلال تصريحات إعلامية، بأن "المستوطنات لا تشكل عائقاً أمام السلام"، حيث لم تصدر عنه يوماً إدانة لهذه الجريمة التي تنتهك حقوق الفلسطينيين في أرضهم، وفي تقرير مصيرهم.
وتتضخم في عقل المسؤول الأمريكي التناقضات حين يعبر عن تأييده لحل الدولتين، بينما يوافق وإدارته على استمرار تمدد سرطان الاستيطان في الأرض الفلسطينية، ويرفض تدخل الأمم المتحدة في إيجاد حل للقضية الفلسطينية، وفي الوقت ذاته يؤكد بأن الرئيس الأمريكي "لن يفرض أي حل على (إسرائيل)".
وفي تصريحات صدرت عنه منذ أيام قليلة يؤكد فيها بعدم السماح لحركة (حماس) بالمشاركة في أية حكومة فلسطينية مستقبلية إلا إذا اعترفت بشروط الرباعية وبدولة (إسرائيل) و"اللاعنف" علناً، والاتفاقات السابقة الموقعة مع دولة الاحتلال، كما أنه يملي على الحركة بالإسراع في إعادة الجثث وأسرى جنود الاحتلال، الذين أسرتهم المقاومة بعد معركة طاحنة غير متكافئة أقدمت عليها دولة الاحتلال ضد قطاع غزة، وتسببت بمقتل أكثر من 2300 فلسطيني، نسبة كبيرة منهم من الأطفال والنساء والمسنين، إضافة لجرح ما يقرب من 11 ألف آخرين، وفقاً لوزارة الصحة الفلسطينية.
وفي الوقت الذي يعبر فيه غرينبلات عن "فلسفته في الحياة كما في العمل التي تقوم على التقريب بين الشعوب، والعمل على الوحدة وليس التفرقة، وذلك أقوى طريق للنجاح"، بحسب زعمه، فإنه لم يتبق منه إلا أن يعلن -نيابة عن الشعب الفلسطيني- عن تشكيلة الحكومة الفلسطينية التي توافق أهواءه وميوله الشخصية "الفصامية".
مع ذلك كله، تستغرب الإدارة الأمريكية اعتبار القيادات الفلسطينية الولايات المتحدة وسيطاً غير نزيه في عملية السلام، ومطالبتهم بمشاركة أطراف دولية أخرى في العملية السلمية، تضع الحل على مساره القانوني، الذي يعطي الزخم لتطبيق القوانين والقرارات والمعاهدات الدولية المتعلقة بالقضية الفلسطينية، ولا يحابي الجلاد على حساب الضحية.