"تحية العروبة والوطن والتحرير، أما بعد فإن كنت تقرأ هذا فهذا يعني أني قد مِتُّ، وقد صعدت الروح إلى خالقها، وأدعو الله أن ألاقيه بقلب سليم مقبل غير مدبر بإخلاص بلا ذرة رياء".
هذا مقطع من وصية الشهيد باسل الأعرج المختزلة، التي كتبها قبل لحظات من استشهاده.
في ذكراه السنوية ترفرف علينا روحه، تزورنا محملة بالعطر والياسمين، تلقي بضيائها وتنوء بأحمالها وتفتح آفاقًا لا يدخلها إلا الشهداء، وأي شهيد؟!، شهيدنا جمع بين الثقافة والرصاصة، فك لغز هذا المثقف الجبان، أو ذاك المسلح الطائش الذي يجهل لغة الحق والحرية، إنه صاحب المعادلة، هي المعادلة التي حاور فيها عمر المختار جلاده، عندما سقطت نظارته وهو يعلق على حبل الاستعمار المجرم القاتل، ما أجمل المعرفة والعلم عندما يلتقيان مع المقاومة ومواجهة الظلم!، وما أبشع أن يتمسك أحدنا بطرف من أطراف المعادلة، فيمشي أعرج بين الناس يقول ولا يفعل أو يفعل بلا علم!، تلك وهذه مهاوي الردى.
ها هي الساحة العربية تعج بحملة السلاح دون أن تكون له الوجهة الصحيحة أو الرشد الذي يضيء له طريقه، وتعج أيضًا بالأقلام والأفواه التي تتشدق وتملأ الفضاء ضجيجًا بلا أدنى رصيد أو ثمر، بل بالعكس تمامًا تهتك نسيجنا وتدمي أرواحنا، وتصب الزيت على نار لا تبقي ولا تذر.
كان شهيدنا من حملة الفكر المقاوم لسياسات الاستعمار بكل أبعاده السياسية والاجتماعية والثقافية، لم يكن مجرد مثقف، بل كان يقود حراكًا جماعيًّا، وكان رائدًا في هذا الحراك، كان يتقد حماسًا وشعلة تتحرك وسط أدغال الظلام، لا تهمه قلة السالكين وكثرة الهالكين، بل كان كل همه كيف تبقى الشعلة مشتعلة نورًا ونارًا، كانت حركته عن علم وفكر ناضج يهيئ نفسه ويهيئ من حوله للإحاطة بفهم التاريخ والمرحلة واستشراف المستقبل، وفي الوقت نفسه يقود حراكًا ثوريًّا آخر في واقع الفعل، كان بإمكانه أن يتربع على عرش المعرفة بما يمتلك من قدرات ميزته من غيره، فيعيش أكاديميًّا عالي المقام يشار إليه بالبنان، فيصول ويجول وكل من حوله يصفق ويبدي الإعجاب، وعلى صفحته الفيسبوكية ينتشي وجدانه وهو يرى الإعجابات وتعليقات الإطراء، ولكن رجلًا ينتبه وهو يواجه الموت المزلزل إلى القلب السليم والإخلاص دون أية ذرة رياء لا يمكن أن يرضى بحياة عرجاء تسير بصاحبها على طرف واحد من أطراف المعادلة، وهذا الصنف من الناس فيه خلق كبير، أبى إلا وقوفًا شامخًا مكتمل الأركان، باسل الأعرج لم يكن أعرج بل شق طريقه بكل قوة واقتدار بما يحمل من علم وسلاح.
كان همه الذي ختم به حياته القلب السليم الخالي من أية ذرة رياء، إلى الذين يلهثون خلف الكاميرات، إلى الذين نذروا حياتهم للأضواء و"مايكروفونات" الإعلام، إلى الذين يتناحرون في السباق المحموم إلى السبق الصحفي المزيف، إلى الذين رضوا بأن يكونوا صغارًا يلعبون لعبة الصغار فحولوا السياسة إلى ملعب صغير، وصارت عقولهم ترتمي هنا وهناك، لا هم لها إلا التقاط صورة أو الظهور في خبر؛ تعالوا وانظروا، إن كانت لكم قلوب تفقهون بها، انظروا إلى هذا الذي يقول في وصيته: "وأنا الآن أسير إلى حتفي راضيًا مقتنعًا وجدت أجوبتي، يا ويلي ما أحمقني!، وهل هناك أبلغ وأفصح من فعل الشهيد؟!"، وجد الإجابة عندما سلك بصدق طريق الشهادة، وجد أفصح وأبلغ وصية، هي فعل الشهيد نفسه دون أية كلمات، دم الشهيد وحده هو أفصح الكلام وأبلغه.
هي حالة الشهادة الفلسطينية الحرة من كل آصار وأغلال ظلام الواقع المر، الشهادة الفلسطينية التي خرجت من عبودية الطغاة، وعبودية الاستعمار، وعبودية دول العالم التي تدعي أنها حرة وهي ترزح في قيود الصهيونية السوداء، تحررت من كل أشكال العبودية، وحشرت كل هؤلاء في محراب أسود ركع فيه الطغاة وكل أوجه الاستعمار ودول تسمي نفسها حرة أمام تمثال بني صهيون الأخرق، كشفت أرواح شهدائنا كل هؤلاء وفضحت أسرارهم في حين هي تفتش عن ذرة رياء في إخلاصها لتتحرر منه.