منذ أن دعيت بـ"المسيرة السلمية"، بهدف تصفية القضية الفلسطينية تحت لافتة حلها، رافق تعثُّرها المتعمَّد والهادف لحلب المزيد من التنازلات العربية والفلسطينية عجاج تضليلي لا ينقطع ساهم في إثارته كافة أطرافها وكل من موقعه. كان خلطة من غبار أكاذيب، وضباب إيهامات، ودفق تسريبات مبرمجة، وسيل أخاديع مفضوحة لكنما مستحبة لدى معشر الانهزاميين العرب والفلسطينيين.
بيد أن هذه المسيرة الكارثية، أما وقد قطعت في معارجها ومدارجها قرابة الربع قرن وحققت للمحتلين ما حققته متمثلا في الواقع الذي أوصلت القضية إليه راهنا، فمن شأن إنجازاتها المنعكسة في راهني، الحالة الأوسلوية البائسة، وشائن انحطاط الواقع العربي، أن سهَّلت لرعاتها الأميركان الانتقال من طور الحليف المنحاز والمتبني لرؤية حليفه المدلل للعملية التصفوية، إلى طور الشراكة كاملة الأوصاف معه، ومحاولة فرضها مستعينا، ومن أسف، بمقاولي باطن عرب للضغط على التسوويين الفلسطينيين لقبول ما ليس بمقدورهم، أو لا يجرؤون على قبوله.
هذا الانتقال بدأ بدفع العملية التصفوية لنهاياتها المنشودة عبر إردافها بغموض تصفوي تكفَّلت به ما دعيت “صفقة القرن"، هذه التي ابتدعتها، أو هكذا صوّرت، مخيلة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، والتي منذ أن أطلق فقاعتها ظلت المجللة بالغموض، وعلى وقع نقائض حديثها يثور كل ما سبق وأن ثار من عجاج عبر خطى المسيرة الأم منذ أن بدأت…أكاذيب يتم تكذيبها بعد تصديقها، وإيهامات تترى سريعة الانقشاع، وتسريبات تتوالى يتلاطم زائفها بمؤكدها، وهكذا…المهم الوقت يمضي لصالح التهويد، والحالة العربية الرسمية سائرة إلى التطبيع واعتماد العدو البديل بدلا من الأصيل، والفلسطينيون المستفرد بهم، هم أوسلويون تحاصرهم تنازلاتهم وتنهال عليهم الضغوط الشقيقة والعدوة في رام الله، ومقاومون محاصرون من العدو والشقيق، وفوقهما الأوسلويون، في غزة.
في خطابه أمام مؤتمرهم السنوي، أخبر نتنياهو جماعة “ايباك" أن حديثه مع ترامب عن الفلسطينيين لم يستمر “أكثر من ربع ساعة"، وأنه لم ير أي مسوَّدة، أو جدول زمني، “لخطة السلام الأميركية"، وأن موضوع “إخلاء المستوطنات لم يطرح بتاتا". وكان ترامب قد قال إبان استقباله له إنه يتمنى أن “تتقدَّم عملية السلام بعد أن أزلنا القدس عن طاولة المفاوضات"! وإذا ما تذكَّرنا تأكيدات نيكي هيلي المندوبة الأميركية في الأمم المتحدة بأن صفقة القرن هي قاب قوسين أو أدنى من الاكتمال، ثم التسريبات الاحتلالية الموازية والقائلة بأن المطروح هو شكل ما لدولة فلسطينية “بحدود غير متصلة" وتواجد عسكري احتلالي ما بين أوصالها غير المتصلة، وإن تنفيذها قد يستغرق 30 عاما، يتضح لنا أننا إزاء كذبة تصفوية، أو أخدوعة أخرى بعد استنفاد الغرض من أحبولة “حل الدولتين" الإيهامية وسحبها من التداول بعد أن تجاوزتها عملية فرض الوقائع التهويدية على الأرض، وإن الحليفين الشريكين، الأميركان وإسرائيلهم، ليسا في وارد التفاوض على حلول، وإنما يسعيان لفرضها وفق تصورهما الواحد للتصفية… ودليلنا هو أنه، إذا ما تمت إزاحة القدس، واللاجئين، والمستعمرات، من على طاولة المفاوضات، فما الذي تبقى للتفاوض حوله، سواء أكان متصلا أو غير متصل، ويمكن للأوسلويين توفُّر الجرأة على قبوله؟!
بالمقابل، قيل الكثير فيما دعاها البعض بخطبة الوداع، التي ألقاها رئيس السلطة في الاجتماع الدوري الذي عقده “المجلس الثوري" لفتح السلطة، وخرج فيها عن النص ليخاطب المجتمعين قائلا “قد تكون هذه آخر جلسة لي معكم". ومما قاله أيضا، “لن أختم حياتي بخيانة"، والمقصود هنا قبول “صفقة القرن" المعروضة، أو التي ستعرض، إن هي لم تكن قد عرضت عليه وإن لم تطرح رسميا بعد…لن ندخل هنا في لجة التكهنات والتفسيرات التي أثارتها عبارته الوداعية هذه، وهي عديدة، ومن بينها ما قيل حول عمره ووضعه الصحي الخ، وإنما نربط المسألة باختياره للعالول نائبا له، وبتصريح للدكتور محمد شتيّة، عضو اللجنة المركزية لحزب السلطة، حول اجتماع سيعقد للمجلس الوطني أواخر الشهر الذي سيلي القادم، وفيه “سيحدد البرنامج السياسي والوطني الفلسطيني"، ونربط الثلاث برابع سبق وأن تعرضنا له بمقال كنا قد أوقفناه عليه، وهو بعض ما قاله الدكتور صائب عريقات في حوار أجرته معه إحدى قنوات الاحتلال التلفازية، ومثله هو مما لا يقال هكذا، كما ولا يطلق مثله عبثا، ومنه قوله إن “الرئيس الحقيقي للسلطة هو أفيجدور ليبرمان، ورئيس وزرائها بولي مردخاي"…ماذا يعني؟!
أولا، ولربع قرن خلا حدد نهجهم برنامجه السياسي ولم يحد عنه، وفي اجتماع المجلس المركزي تم التأكيد عليه، وبالتالي، لم تنفَّذ اللجنة التنفيذية في اجتماعها الذي تلاه ولا توصية من توصياته السابقة أو اللاحقة، لم يسحب الاعتراف بالكيان المحتل ولم يتوقف التعاون الأمني مع المحتلين، وأعادت تأكيدها على ذات النهج والبرنامج.
وثانيا، لطالما لوَّحوا بتهديدات مشابهة تستدر الحلول، أو لدفع الضغوط، وتم التراجع عنها، ومنها التهديد بإقفال السلطة وإعطاء المفتاح لنتنياهو.
وأخيرًا، لقد أخذ المسار الانهزامي التسووي أصحابه إلى نهايته المحتومة.. ها هم يواجهون الآن خذلان كل من راهنوا عليهم لإيصالهم برَّ التسوية الموهومة.. لم يتبقَّ في الجعبة سوى خطبة الوداع!