فلسطين أون لاين

​دورات تنمية بشرية في النقب

هكذا حول الأسرى الفلسطينيون سجونهم إلى معاهد وجامعات، لقد قرروا أن يخسر السجان أكثر مما يخسرون، تصالحوا مع زمن السجن، استقطبوه لمصلحتهم وحولوه من عدو إلى صديق، عرفوا ماذا يريد الاحتلال من زجهم في السجون، عرفوا هدفه، وهو سلخ سنين من أعمارهم ودفعهم نحو الشعور القاتل بالإحباط، وبذلك يتحقق التفريغ الكامل للأسير من المحتوى الوطني والديني والقيمي والإنساني والثوري أو الجهادي، ثم تخريجه من هذه السجون التي هي مقاتل للروح في صورة هياكل بشرية ذات محتوى فارغ، عائدًا إلى مجتمعه لا في العير ولا في النفير، فقط مجرد رقم يأخذ راتبًا آخر الشهر مجردًا من أي دور، هذا هو هدف السجان، عرفه أسرانا جيدًا، فكان لهم بالمقابل هدفهم، ومن هنا انطلقوا في بناء الذات، وأقاموا للثقافة في السجون وزنها.

عمد الأسرى إلى تشكيل اللجان الثقافية، وهذه بدورها تضع الخطة الثقافية، وتسير على وفق رؤية واضحة وبرنامج محدد لكل دورة انتخابية تجرى في السجون، وعادة ما تتضمن هذه الخطة الجلسات الثقافية والدورات والنشرات والندوات العامة والمسابقات ودراسة اللغات والترجمة، وتوظف الكفاءات المتوافرة وتفعل في البرنامج كل حسب تخصصه.

بالمقابل تشتت إدارة السجن وتخرب هذه البرامج بضرب حالة الاستقرار، فتعمد إلى عمليات النقل من قسم إلى آخر ومن سجن إلى آخر، لتجعل من الصعب بمكان أن تصل الخطة الثقافية إلى نهايتها المتوقعة، ولكن الأسرى عادة ما يوجدون البديل، ولديهم المرونة الكافية لأي تعديل وسط الطريق.

ومن الأمثلة الرائدة على نجاح الثقافة في السجون الكم الهائل الذي تخرج بثقافة عالية، وهناك مثال حي اليوم، وهو سجن (هدريم) الذي أصبح جامعة أكاديمية للبحث، ومنح شهادة الماجستير، بفضل وجود مجموعة من القادة، مثل: مروان البرغوثي وإبراهيم حامد وعباس السيد، وتمكن الأسرى هناك من تكوين مكتبة ضخمة حاوية لمراجع وأمهات الكتب، وتمكن طلاب الماجستير هناك من عمل بحوثهم، تجربة جدية وطموحة ومثابرة تمكنت من تحدي ظروف السجن القاهرة، ونجحت في شق طريقها وسط أدغالهم إلى حيث أهدافهم، قاطعة على السجان أهدافه اللعينة، ويذكر هنا أن فكرة فتح هذا السجن (هدريم) كانت تستهدف ضرب كل السجون بتجميع الكوادر منها، وزجها في زنازين انفرادية معزولة، كما في (هدريم).

ويتسع الأفق الثقافي في السجون إلى مواد ومساقات كثيرة، في السياسة والدين والأدب واللغة والتاريخ ... إلخ، وظهرت أخيرًا آفاق جديدة دفعتني إلى كتابة هذا المقال، إذ شهد النقب دورة تحت عنوان: "مهارات أساسية في التنمية البشرية"، أشرف عليها متخصصون في هذا المجال، ستبقى السجون محاضن للرجال والقادة، وستبقى إرادة الأحرار دائمًا منتصرة ومتفوقة حتى في عتمة الزنازين وظلمة السجون.