عندما تشتد الأزمات وتتكاثر المآسي والمشاكل على الشعوب المناضلة الساعية إلى تحرير أوطانها، يظهر فريق من الناس يدعي بأنهم أهل الواقعية يحثون الناس على وقف مقاومة المحتل من أجل وقف الأزمات والمآسي التي تلحق بهم من المحتل جراء مقاومته له، وهؤلاء القوم يدعون زوراً وبهتاناً بأنهم حريصون على سلامة الشعوب وعلى جعلها لا تتعرض للهلاك والدمار على يد محتلي الوطن.
ويتناسى هؤلاء ويتجاهلون تاريخ الشعوب المحتلة التي كانت دائماً ما تدفع ثمناً باهظاً وغالياً لنضالها ومقاومتها للمحتل، كما ويتناسى هؤلاء أن الشعوب المحتلة كانت دائماً أضعف من المحتل لأراضيها، وبالرغم من ذلك فإنها تقاوم وتناضل وتقدم التضحيات تلو التضحيات في سبيل التحرير على الرغم من الثمن الفادح والغالي لذلك، ولو أن الشعوب المحتلة أخذت بالواقعية التي يدعونها ما كانوا قاوموا أو حرروا أراضيهم لأن ميزان القوة المادية دائماً ما يكون في صالح المعتدين والمحتلين للأوطان.
وأصحاب مبدأ الواقعية هم أخطر الناس على نضال الشعوب، فهم من يثبطون همم الشعوب عن مقاومة محتليها، كما أنهم لا يدخرون جهداً في تفريق صفوف المقاومين للمحتل، بل ويعملون أيضاً على تدمير كل جهد مقاوم وتقزيم الإنجازات التي يحققها بدعوى التضحيات الهائلة التي يتم دفعها في سبيل تحقيق إنجازات قليلة لا تؤثر على أرض الواقع.
وهم يدعون كذباً أنهم واقعيون فهؤلاء منهزمون مستسلمون لا يرغبون في دفع أي ثمن، بل يريدون حياة جاهزة وعيشة هنية وراحة بال، حتى لو كان على حساب الوطن والشعب، ويتملق هؤلاء القوم المحتلين بهذه الدعوة ويكونون كالعبيد أمام ساداتهم المحتلين، ويرضون بالفتات من موائد سادتهم والتي يلقونها لهم بعد أخذ كل ما يريدون منهم.
ولنا نحن الفلسطينيين تجربة مرة مع أصحاب هذا المبدأ حين غادرت منظمة التحرير أرض لبنان بعد غزوها من قبل الكيان الصهيوني عام 1982، حيث ظهر هؤلاء على الساحة كأنهم المخلصون للشعب الفلسطيني من معاناته ومأساته التي جلبتها له مقاومته لمن لا يمكن مقاومته، وعملوا على التحريض على الكفاح المسلح وأنه لا يجدي نفعاً بأن الطريق الوحيد لتخليص الشعب الفلسطيني من معاناته التفاوض مع المحتل وأخذ ما يستطيعون منه، وتناسى هؤلاء أنهم ضعفاء لا يستطيعون أن يفرضون أي شيء على المحتل في المقابل يستطيع الكيان الصهيوني أن يفرض ما يشاء عليه بقوته العسكرية والدعم اللامحدود له من قبل العالم الغربي.
وتنامى التيار الواقعي في منظمة التحرير نتيجة للظروف الدولية والإقليمية التي عملت على تقوية أصحاب التيار الواقعي، وبدأت مرحلة جديدة في تاريخ منظمة التحرير عندما بدأت المنظمة بالتفاوض المباشر مع الكيان الصهيوني والذي أدى في النهاية إلى ظهور اتفاق أوسلو الكارثي، والتي حولت منظمة التحرير من الكفاح المسلح ضد المحتل إلى درع امني واقي للمحتل ضد المقاومة المسلحة ، ونحن نرى اليوم مثالاً صارخاً لهذه الدرع الأمني في الضفة الغربية التي أصبحت مرتعاً للكيان الصهيوني يفعل فيها ما يشاء دون أدني مقاومة إلا حداً يسيراً يكاد لا يذكر.
ونحن لا ندعو إلى تجاهل الأزمات والكوارث المحيطة بالناس، بل ندعو إلى العمل على حلها ولكن دون التفريط في الثوابت الفلسطينية المجمع عليها، ومن ضمنها سلاح المقاومة الذي يتم الحديث عنه بشكل كبير ومحاولة نزعه في مقابل تحسين الوضع الاقتصادي المنهار في قطاع غزة وفك الحصار عنه، ونحن لا نريد أن ننفصل عن الواقع باسم النضال والمقاومة المسلحة بل نريد أن نكون واقعيين ولكن ليس مستسلمين أو منهزمين ولا نفرط بثوابتنا باسم الواقعية الانهزامية والاستسلامية.