هل كنّا بحاجة لثلاثة عُقود من الدخول في نفق التسويّة المظلم كي نكتشف استحالة تحقيق السلام في ظل موازين القوى المختلة لمصلحة العدو، أم كنا بحاجة لاكتشاف الكيان العبري الذي لا يرى في السلام أكثر من مفردة بلاغية يلهج بها في المنتديات والمحافل الدولية، ويستغلها غطاء لمراكمة المزيد من المكاسب؟، وهو ما عبّر عنه شمعون بيرس سنة 1993م بعبارة تختصر رؤية الكيان للسلام عندما قال: "نحن لا نبحث عن سلام رايات بل نهتم بسلام الأسواق"؛ فالسّلام عندهم يتلخص في ابتلاع أسواق المنطقة والهيمنة عليها.
أمّا منظور الكيان إلى السلام مع الشعب الفلسطيني فلا يراه سوى محض استسلامٍ من جانب الفلسطينيين، يشكّل له مدخلًا للوصول إلى سلام الأسواق كما وصفه شمعون بيرس، أو السلام الاقتصادي كما عبّر عنه بنيامين نتنياهو، والآن بعد مرور كل تلك السنوات من عمر التسوية لم يتحقق شيء، ولم يستعد الفلسطينيون أيّ جزءٍ من حقوقهم، وما زلنا نطوف في الحلقة المفرغة نفسها، وهو ما يذكرنا بما قاله إسحاق شامير عشية مؤتمر مدريد عام 1991م: "سأفاوض الفلسطينيين عشرين عامًا دون أنْ أعطيهم شيئًا"، وها هي عملية المفاوضات قد شارفت على إتمام ثلاثين عامًا، دون إحراز أي تقدمٍ في العملية التي سميت عملية السلام، إذ اكتشف الطرف الفلسطيني المفاوض أنّ رؤية الكيان لهذا السلام تنطوي على ترويض الفلسطينيين وإجبارهم على القبول بشروطه، أي أنّه سلام إذعانٍ لا سلام شجعان.
وقد عايشت عملية التسوية كل أشكال الحكومات الإسرائيلية اليمينية واليسارية وحكومات الوسط، فضلًا عن كل أنواع القادة المتطرفين والمعتدلين والصقور والحمائم، لنصل إلى استنتاج أن ما يحكم الكيان طبيعته لا حكامه، وطبيعته عدوانية وتوسعية وعنصرية ولا يمكنه أن يفهم السلام إلا من منطق القوة والإخضاع.
أمّا الولايات المتحدة الأمريكية التي تفردت وحدها برعاية العملية، وقبل الطرف الفلسطيني ومن خلفه الأنظمة العربية المتساوقة مع التسوية هذه الرعاية المنفردة، فقد تقلبت خمس إدارات أمريكية منذ جورج بوش الأب حتى إدارة ترامب الحالية، وكانت كلها بالكامل منحازة إلى الكيان ولم يكن يهمها تحقيق السلام في المنطقة، وإنما كانت معنية بالعملية السياسية لا السلام، واستخدمت هذه العملية أداة ذل لإدارة أزمات المنطقة وابتزاز دولها، وبهدف إبعاد الدول الكبرى عن الاقتراب من المنطقة، وكانت في الواقع تتبنى الرؤية الإسرائيلية للتسوية والخطوط الحمراء التي رسمها الكيان، كما رأينا في مفاوضات كامب ديفيد وطابا، وتحفظات شارون على خطة خريطة الطريق ومفاوضات أنابوليس، لتأتي إدارة ترامب وتمثل ذروة الانحياز المطلق إلى الكيان بمشروعها السياسي المتمثل في صفقة القرن، التي ترمي إلى تصفية القضية الفلسطينية، إذ كانت مسألة الاعتراف بالقدس عاصمة للكيان وإعلان نقل السفارة الأمريكية إلى قدس تمثل مقدمة لفرض هذه الخطة وإجبار الفلسطينيين على قبولها، فقد أعلن الكيان منذ انطلاق قطار التسوية خطوطه الحمراء التي تجمع عليها الأحزاب "الإسرائيلية" كافة من أقصى اليمين حتى أقصى اليسار، وهذه الخطوط الحمراء (رفض عودة اللاجئين، ودولة فلسطينية منزوعة السلاح، والقدس عاصمة موحدة للكيان العبري، وضم الكتل الاستيطانية الكبرى، والحدود البرية والبحرية والأجواء تحت سيطرة الكيان، وهو ما يضرب بالصميم الحقوق الوطنية الفلسطينية بحدودها الدنيا، وإن الكيان يدرك أنه لا يمكن للفلسطينيين قبول هذه الشروط، وكان يتحين الفرص على نحوٍ يتيح له فرض التسوية على قاعدة الإذعان لشروطه، وكان يبحث عن معطى سياسي أو تاريخي يشكل له فرصة لفرض رؤيته؛ فقد حاول ذلك في مفاوضات كامب ديفيد وفي أعقاب احتلال العراق وإعلان خطة خريطة الطريق، وكذلك بعد الانقسام الفلسطيني وإطلاق مفاوضات أنابوليس، وفي ظل إدارة ترامب يشعر الكيان أن الفرصة قد باتت مواتية لفرض هذه التسوية بتنفيذ خطة صفقة القرن، إذ يسود اعتقادٌ أقرب إلى اليقين أن من رسم ملامحها الأساسية هو نتنياهو لا ترامب، فهذه الخطة تكاد تكون متطابقة تمامًا مع الخطوط الحمراء الإسرائيلية، أما إطلاقها في هذه المرحلة فإنه يستند إلى الاعتبارات التالية:
أولًا: يرى الكيان العبري أنه دولة قوية ولديها اقتصاد مزدهر، ولا يوجد حاليًّا ما يهدد وجوده، في ظل انشغال دول المنطقة في حروبها الطاحنة، وإنه يرى أيضًا خطرًا وشيكًا من ناحية الفلسطينيين على شاكلة انتفاضة أو حرب من شأنها أن تزعزع أمنه واستقراره.
ثانيًا: ضعف الفلسطينيين وانقسامهم وفشلهم حتى اليوم بإنجاز وحدتهم الوطنية، والاتفاق على إستراتيجية وطنية موحدة تشكل تحديًّا سياسيًّا للكيان، وبقاء السلطة متمسكة بنهج التسوية وعدم قدرتها على امتلاك خيارات سياسية وكفاحية أخرى.
ثالثًا: انشغال العالم العربي بأزماته وحروبه الأهلية، الأمر الذي همش القضية الفلسطينية، وأضعف العمق العربي المساند لها.
رابعًا: تذاوق ما يعرف بدول "الاعتدال العربي" مع مشروع تصفية القضية الفلسطينية، وترى هذه الدول خطرًا ينبغي التصدي له وله الأولوية على أية قضايا أخرى، وهو ما أعطى هذه الدول الفرصة للتحالف العلني مع الكيان.
خامسًا: يرى الكيان إدارة ترامب الفرصة الذهبية لتمرير وفرض رؤيته بالتسوية، فترامب في نظر الكيان رئيس طيع ويتبنى الموقف الإسرائيلي بالكامل، ولديه الاستعداد للقيام بخطوات غير مألوفة لم يسبقه إليها رؤساء سابقون، كالاعتراف بالقدس عاصمة للكيان، واعتزامه نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، وقطع المساعدات الأمريكية عن الفلسطينيين.
لكن كثافة اللحظة السياسية التي تمرّ بها المنطقة وتسارع الأحداث والتطورات من شأنهما أن يشوشا على هذه الخطة، ويحولان دون إمكانية نجاحها، فالفلسطينيون أعلنوا صراحة رفضهم هذه الخطة، رافضين التساوق معها ومع مقدماتها المتمثلة في إعلان القدس عاصمة للكيان، وأعلنوا رفض الوساطة الأمريكية المنفردة في إدارة العملية السياسية، وهو موقف أفقد الإدارة الأمريكية صوابها، وبات من المتعذر عليها البحث عن صيغة تجبر الفلسطينيين على قبول هذه الخطة.
أيضًا الحرب السورية أفرغت واقعًا من شأنه أن يضع علامة استفهام كبيرة أمام إمكانية نجاح هذه الخطة؛ فالتغلغل الإيراني في سوريا بات يقلق الكيان ويجعله يعيد حساباته، أما الوجود الروسي في سوريا وتدخلها السياسي في مختلف ملفات المنطقة فباتا يشغلان الولايات المتحدة أكثر من أي مسألة أخرى، أما ما يسمى دول الاعتدال العربي فهي في موقف محرج، وباتت متهمة بالتواطؤ مع المشاريع الأمريكية والإسرائيلية لتصفية القضية الفلسطينية، في حين إيران والقوى التي باتت تعرف بمحور المقاومة بدت كمن يتصدى لهذه المشاريع، ويجعل دول الاعتدال العربي في موقف ضعيف لا يؤهلها لأنْ تضغط على الفلسطينيين لقبول خطة ترامب، أيضًا انشغال نتنياهو في قضايا الفساد الموجهة له، وإمكانية تقديم لائحة اتهام ضده وإبعاده عن الحالة السياسية يعرقلان بالمدى المنظور فرص إطلاق هذه الخطة.
أمّا العامل المهم الآخر فيتعلق بترامب نفسه صاحب الخطة؛ فشخصيته المثيرة للجدل في الداخل والخارج تركت انطباعًا عامًّا بأنّه يفتقد للاتزان والجديّة والموضوعيّة، وهو ما مِنْ شأنه أنْ يفقده القدرة على تجنيد الدعم السياسي لهذه الخطة على الصعيدين العالمي والإقليمي.
إنّ هذه العوامل مجتمعة جعلت خطة صفقة القرن خطة بلا أجنحة تُحلّق بها، وهو ما أتاح للجانب الفلسطيني هامشًا للمناورة والإفلات جزئيًّا من القبضة الأمريكية أو _على الأقل_ التظاهر بالغضب، إمّا بهدف تحسين شروطها، وإمّا أنْ يكون مقدمة للبحث عن خيارات أخرى، وهذا مرتبط بإعادة الاعتبار للداخل الفلسطيني، واستعادة الوحدة الوطنية، والاتفاق على إستراتيجية موحدة، وقد يكون من المبكر الحكم على موت صفقة القرن، لكن الأطراف التي من المفترض أن تكون دافعًا باتجاه إخراجها من وكرها هي في موقف لا يساعدها على إنجاحها، وفرضها على الفلسطينيين.
وفي ظل هذا الواقع مطلوب منّا الفلسطينيين التمسك بالثوابت الوطنية، والاستمرار في رفض الدور الأمريكي في عملية التسوية، والمطالبة بمؤتمر دولي كامل الصلاحيات، والأهم من كل ذلك سحب الاعتراف بالكيان العبري، وهذا يستلزم قبل كل شيء استعادة الوحدة الوطنية، ومغادرة نفق التسوية المظلم، والبحث عن خيارات مغايرة لهذا المفر؛ فالأعوام القليلة القادمة تنذر بتحولات عميقة على الصعد كافة، وهذه التحولات ليست في مصلحة الكيان ولا الولايات المتحدة، وما علينا سوى الثبات على الموقف.