أثار العلم الفلسطيني حفيظة قوّة هندسيّة إسرائيلية، كما هُو السّلوك الإسرائيلي وموقفه من الوُجود الفلسطيني على الأرض الفلسطينية، إذ لا يريد أن يرى إنسانًا، ولا حجرًا، ولا راية تعبّر عن أصالة هذا الشّعب على الأرض، فكانت عمليّة استدراج الأغبياء لتتفجّر العبوة في تلك القوّة الهندسيّة لتصيب من تصيب، تلك الدّولة الغازية التي لها سبعون عامًا على الأرض الفلسطينية لم تحققّ لها أمنًا ولا أمانًا، وسيبقى هكذا الحال إلى أن يُدحر هذا الكيان الغاصب عن الأرض الفلسطينية.
كثيرٌ توقّعوا أن يتفجّر الوضع، وأن تبدأ المواجهة الشّاملة بين الاحتلال والمقاومة الفلسطينية والشّعب الفلسطيني في ظلّ تهديدات أطلقها الكيان الاحتلالي ضدّ غزّة والمقاومة، فكانت تصريحات ليبرمان كالعادة ناريّة الخطاب الموجّه بغرض إرهاب الشّعب الفلسطيني، في حين أن الشعب الفلسطيني مقاومته أصبحت تفهم جيّدًا سُلوك هذا العنجهي الذي تخرّ قواه عمليًّا إذا ما فكّر في مواجهة شاملة على حدود غزة أو عمقها أو ساحلها، فلم تعد مُكيّفات حروب 2008م و2012م و2014م هي نفسها المكيّفات التي تحكم الصّراع الآن، لا أتحدث هنا عن التّطوير الذي حدث في سلاح المقاومة، فهذا جانب، أما الجانب الآخر فهو التوازنات الإقليمية والدّولية، وما يعتقد الكيان أنه سيحقّق أهدافه دون حرب وخسارة، فقطاع غزة تفرض السّلطة عليه حصارًا وعقوبات، تحت دعوى تمكين الحكومة (حكومة رامي الحمد لله)، ويعني مفهوم التّمكين كما قال الرئيس أن تبقى غزّة كالخاتم في إصبعه، أي بالمعنى السياسي أن تبقى غزّة مجرورًا لمنهجيّة الرئيس، التي يهمل فيها الطّاقة الدّاخلية والوحدة الوطنية والتفاعل الوطني الدّاخلي، ليهتم بـ"بانورامات" خارجيّة تصطدم بالنّفوذ والضّغط الأمريكيين في مجلس الأمن وباقي المنظّمات الأخرى، وبذلك الشّعب الفلسطيني على أرض الواقع لن يحقق إنجازًا ما لم يكن هذا التحرك مصحوبًا بذراع المقاومة والمقاومة الشعبية بكل أساليبها.
إضافة إلى قوة الرّدع لدى المقاومة، والحسابات الخّاصة لمجلس الأمن المصغّر الإسرائيلي أن أي حرب لن تحسم إنجازًا في القضاء على المقاومة في غزة وشكوك في تحقيق أي نصر عليها، إذًا الخيار أمام الإسرائيليين أن يقطفوا ثمار الحصار والعقوبات التي يفرضها الرئيس على غزّة سياسيًّا وأمنيًّا دون أي خسارة يتحملها الاحتلال، وهذا ما يراهن عليه الإسرائيليون، ولذلك لا أتوقع أن عمليّة "العلم الفلسطيني" ستجرّ الطّرفين إلى حرب شاملة، ولست مع الرأي القائل بذلك، بل كانت غارات إسرائيلية تقليدية كالمعتاد لضرب بعض المواقع التي تكرّر ضربها في السّابق، ولأن الاحتلال ينتظر ما ستفرضه خطّة ترامب بدعم بعض الدّول الإقليمية لترويض المقاومة والقوى الوطنيّة وأجنحة في حركة فتح لقبول ما سيطرح من نماذج اقتصادية على قطاع غزة نعبّر عنها بالمأكل والمشرب مقابل الأمن للكيان العبري والتّخلي عن حق العودة، والحقوق التّاريخية في فلسطين.
إذًا أي مواجهة قادمة تتوقف على مدى صلابة موقف المقاومة الفلسطينية في غزّة، ومناهضتها لخطّة ترامب أو ما يطرح على المستوى الدّولي والإقليمي للحل النهائي للقضية الفلسطينية، وبأي حال ستكون ضد طموحات شعبنا وعلى حسابه، فالخيار أولًا لأدوات الحصار وعقوبات الرّئيس عبّاس على غزة في انتظار أن تؤتي أُكلها، فإن لم تؤت أُكلها فسيكون هناك خيار آخر يرتبط بجوهر التّوازنات الإقليمية، فما يخشاهالاحتلال الآن أيضًا أن تتوحد المقاومة بكلّ أطيافها في قطاع غزّة مع الجبهة الشّمالية التي تقودها المقاومة اللبنانية، فتلك المواجهة إن حدثت فلن نستطيع أن نقول إنها ستُحرر فلسطين، بل لن يبقى الكيان العبري كما كان قبلها، ولن يبقى لبنان كما كان قبلها، ولن تبقى غزّة كما كانت قبلها، فهي الحرب الطاحنة التي ستدفع إلى تغيير السلوك الأمريكي والإسرائيلي في نظرته إلى الصراع والحقوق الفلسطينية، أي ستفرض منهجيّة سياسية أخرى خالية من العنجهية الإسرائيلية، التي ستتعامل مع الواقع الجديد في المنطقة.