هل هناك في هذا العصر من يصنع أقفاصا للبشر؟.. عندما يسافر الأسير الفلسطيني عبر البوسطة اللعينة ويدركه المبيت وسط الطريق فإنهم يزجّونه فيما يعرف بـ"معبار الرملة"، هناك يبيت الأسرى في الزنازين وهم منهكون من سفر مضنٍ يجعلهم جائعين للأكل والنوم وكل شيء، تخور قواهم على أبراش حديدية ليبيتوا ليلتهم في كوابيس البوسطة وآلامها.. الساعة الرابعة صباحا تأتي زبانية البوسطة وهم شداد غلاظ لا أثر في وجوههم لأي خير.. يخرجون الأسرى من الزنازين إلى ساحة تحيطها مجموعة من الأقفاص، كل قفص يتسع إلى قرابة عشرين أسيرا.
تنظر إلى هذه الأقفاص فلا يتبادر إلى ذهنك سوى حديقة الحيوانات "أعزكم الله".. ثم ما تلبث أن تصبح أحد عناصرها.. فكرتهم الجهنمية هذه هي: كيف تكون البضاعة جاهزة لنقليات البوسطة.. البضاعة هي المعتقلون.. إنهم مجرد بضاعة لا أحاسيس ولا مشاعر ولا صلة لهم ببني البشر، يجوز للمحتل أن يفعل بهم ما يشاء، وتتفتق عن عقليته المتحضرة هذه الأفعال طالما أن الطرف الذي يدخل ماكينة عذابه ليس من جنسه.
ويمكث الأسير في قفص من هذه الأقفاص ساعتين أو ثلاثًا، وهو مطعون في إنسانيته ينزف ألما يترقب الخلاص من هذا الامتهان، فينتقل لتتدافعه الزبانية إلى حيث عذاب من لون آخر، إلا أنه أقل امتهانا لكرامته من هذه الأقفاص.
ولا بد من التعريف بشرطة البوسطة، حيث تجد كتلًا بشرية تتحرك بصورة آلية ومبرمجة على القمع والتعامل مع الأسرى على أنهم خردة بشرية يراد نقلهم من مكان إلى آخر دون أي اعتراض أو أدنى نقاش، متبرمين عاقدي الحواجب ولا تتحرك ملامح وجوههم إلا بقسوة وغلظة.
وتوجد مثل هذه الأقفاص في بعض المعتقلات مثل النقب ومجدو وعوفر منتشرة عند مداخل هذه المعتقلات وعند عيادة السجن، حيث ينتظر المعتقل عدة ساعات في القفص يكتوي بنار هذا الامتهان لكرامته وإنسانيته، لم يسلط الضوء على هذا الانتهاك الخطير كما حظيت انتهاكات كثيرة، آن الأوان أن نسلط الضوء على هذا الأسلوب الهمجي في التعامل مع أسرانا وأن نفضح هذه العقلية الإجرامية التي يحتل فيها القفص مكانا عميقا وجوهريا في التعامل مع الفلسطيني.
لا تنظر هذه العنجهية الصهيونية إلى الفلسطيني إلا وهو داخل قفصهم المقيت ولا تريد له أن يخرج منه، ليس في السجون فحسب، بل منهجية تفكير تطغى على عقولهم، لننظر كيف يقولون عن فلسطين والفلسطينيين: "المناطق الفلسطينية"، مصطلح يدل على عقلية الأقفاص، معازل عبارة عن أقفاص يتواجد فيها الفلسطينيون، لننظر إلى الحواجز ونقاط التفتيش وتقسيم الضفة بطريقة تنم عن عقلية الأقفاص، لننظر كيف صنعوا في قطاع غزة، حيث تحول إلى قفص كبير يعيش فيه الفلسطيني، لننظر إلى الممنوعين من السفر لا يريدون لهذا الفلسطيني أن يغادر القفص، القدس أصبحت قفصا، وزيارة الفلسطيني للأقصى تخضع لإجراءات تضمن خروجه من القفص قبل دخوله إليه، اتفاقية أوسلو كان لها أن تتمخض أخيرا إلى أن يتمدد الاستيطان على حساب حشر الفلسطينيين في القفص السياسي الضيق والاقتصادي الأكثر ضيقا.
الأقفاص هي عنجهية الاحتلال وليست في السجون فحسب، وإنما هي نمط استعماري يريد فيه المستعمر لنفسه أن يكون مطلق اليد، بينما من يقع تحت سطوته فليس له إلا القفص.