فلسطين أون لاين

​الأسيرة شواهنة.. أنسام قرآنها غابت عن مساجد القرية وحضرت في سجن "هشارون"

...
أنسام شواهنة
قلقيلية / غزة - حنان مطير

مددوه أرضًا ثم قيدوه وعصبوا عينيه واقتادوه إلى مستوطنة "كدوميم"، لكنه استطاع من أسفل العصبة أن يرى شريطًا أحمر يحدد المكان، فأيقن ناصر شواهنة (51 عامًا) أن ابنته ومحبوبته الوحيدة أنسام قد نفذت عملية ما في صفوف المحتلّ وأن مَن أخبره بأنه رآها تقترب من المستوطنة وظن أنها تائهة كان مُحِقًّا.

تجرّع الصدمة وساوره العجب متسائلًا من تحت عصبته: "كيف لأنسام أن تقتحم مستوطنة فيها ثكنة عسكرية خطيرة كهذه؟!". يروي شواهنة لـ"فلسطين" حكاية ابنتِه الوحيدة (18 عاما) بين خمسة شبان قائلًا: "كانت الأجواء متوترة والأصوات صاخبة، وهناك سألني أحد الضباط بغضب: ألا تعلم ما الذي فعلته ابنتُك المخربة؟" فردّ ببرود مُتعمّد وقلبُه في الحقيقة يغلي: "وكيف لي أن أعلم؟! أنا جئت لأبحث عنها..".

"ابنتك جاءت لهنا -ويقصد مستوطنة كدوميم- ولاحقت مجنّدة حتى بيتها" يردّ الجنديّ عليه بصوتٍ مغلول.

ويضيف شواهنة: سمعتُ أحد الجنود يحكي مع آخر بلغته العبرية التي أفهمها بدقّة "خسارة أنك لم تطلق عليها النار في رأسِها! ثم وراح يشتمها ويسبها بعصبية".

على قيد الحياة

اطمأن شواهنة واستقر قلبُه إذ تأكد أن ابنته ما زالت على قيد الحياة، تُوِّجَت طمأنينتُه فخرًا حين استكمل الجندي حديثه: "لما استيقظت المخربة من الغيبوبة سألها المحقق إن كانت نادمة أم لا، فردت عليه بجرأة "فعلًا أنا نادمة لأنني لم أتمكّن من قتلكم واحدًا تلو الآخر"، يعلق شواهنة: "لقد هدأت روحي ورفرفت عند كلمته هذه فهي تعني أنها بخير وأنها بنفسية عالية شامخة وليست محطّمة كما يتوقع أي أب في حال تم اعتقال ابنته"، ويشير إلى أنهم لم يكونوا على علمٍ بأنه يفهم كل ما يقوله بلغتهم.

كانت محكمة إسرائيلية وجهت لأنسام ثلاث "تهم"، الأولى محاولة القتل العمد والثانية الانتماء "لتنظيم معادٍ" وهو كتائب الشهيد عز الدين القسام، والتحريض الكتابي والشفوي، والحديث لوالدها، موضحًا أن التهمتين الأخيرتين استنبطوها من خلال منشوراتها التقليدية على "فيس بوك" إذ كانت تضع صورة لكتائب القسام بتوقيع "إن كنت لن أعود نلتقي في جنة الخلود".

أنسام التي بلغت اليوم 20 عامًا، وحُوكِمت بالسجن لخمس سنواتٍ عملت محفظةً للقرآن الكريم في المساجد مذ كانت في عمر 14، حين كانت تسكن قرية أماتين شرق قلقيلية في شمالي الضفة الغربية، فكانت تُحفِّظه وتحفظُه، وتترك أثرًا طيبًا في قلب كل من تتحدث إليه، كما يقول والدها الذي وصفها بأنها "دينامو" البيت لنشاطِها، وزهرته التي تفوح عطرًا بحديثها ومرحها الذي لم يكن لينتهي حتى وهي تقبع في سجون الاحتلال؛ وفق ما نَقَلَته الأسيرات المحررات اللواتي عايشنها لفترة من الزمن في السجن، واللواتي أشَدْنَ بالتزامِها في قراءة القرآن الكريم في السجن.

وبعد أن تمكّن والد أنسام من زيارتِها روت له كيف أن ما يقارب العشرين من جنود الاحتلال حوّطوها وراحوا يضربونها بأعقاب بنادقهم وأحذيتهم الضخمة حتى فقدت وعيها، وحين أفاقت قليلًا وجدت المستوطنين هم الآخرون يركلونها في كل مكانٍ في جسدِها حتى خطّ حقدهم في رأسها جرحًا عميقًا.

ابتكار طرق الأذية

ويتفنّن الاحتلال في ابتكار الطرق التي تؤذي وتؤلم الأسرى وأهاليهم، فبعد أربعة أشهر من اعتقال أنسام التي كانت محرومة من رؤية أي من أهلها، دخل والدها المعبر إذ تمكن أخيرًا من الحصول على التصريح بمعاناة -كما يقول- ثم وصل سجن "ريمون" ولم يعد يفصل بينه وبين ابنته سوى عشرة مترات، وهناك، دخل كل الأهالي لزيارة أهاليهم الأسرى سوى "شواهنة" الذي أخبروه أنه ممنوع من الزيارة، ليقعد متحسرًا حزينًا موكلا لله أمره ومنتظرًا انتهاء الزيارة ويعود بخفي حنين مع الأهالي، وفق تعبيره.

وحين تمكّن من الحصول على تصريح حقيقي لزيارتها تم اختيار يوم عيد الأضحى، يوضح: "كل ما يفعله المحتل مقصود ومخطط له، فاختيار عيد الأضحى لزيارتها هو اختيار لمنع فرحة اجتماعي بعائلتي في ذلك اليوم المبارك، لكن الأمر كان هينًا من أجل أنسام".

الأمر ذاتُه يتبعه الاحتلال في المحكمة، فلا يترك مجالًا لحديث الأسير مع أهلِه إلا لبعض لحظاتٍ هي تلك التي يتمّ فيها تقييد الأسير بـِ"الكلبشات" بعد انتهاء الجلسة، يروي شواهنة: "كان يومًا لا يُنسَى، حين قال لي القاضي بعد انتهاء الجلسة والبدء بوضع القيود في يديها وقدميها: بإمكانك أن تتحدث إلى ابنتك وأنت جالس، لا تقف"، فلم تحتمل أنسام أن يتحكّم بي المحتلّ أو يهينني بأوامره، فصرخت بصوت عالٍ ساخر وقد اقتربت قليلًا وهي في قفص المحاكمة وهم يقيدونها من جديد: "خايفين منه؟ لا ترد عليهم يابا اوقف.."، فوقف وقد صار الأمر عنادًا فهما يعلمان أن الثواني المعدودة التي يسمح فيها الحديث لن تكون كافية لأكثر من السؤال عن الحال والاطمئنان بإشارة أو ابتسامة وقد لا تكفي".

ويقول: "حينها جرّوها جرًّا، ودفعوني للخروج دفعًا مليئًا بالحقد والكراهية، لكنني كنت مبتسمًا وكذلك أنسام، كان يومًا من أسعد الأيام التي رأيت فيها أنسام قوية صامدة في وجه المحتل رغم الشعور بالظلم والألم الذي بلا شكّ يراودها دومًا ويراود أهلها وكل فلسطيني".