المقولة المعروفة: "إن الكيان العبري كيان يعيش على الدم المنقول" لها وجاهة وصحة إلى حد كبير؛ فهذا الكيان لا يمت إلى هذه المنطقة بصلة حضارية أو اجتماعية أو جذور تاريخية، بغض النظر عن الأساطير التي يزعمها من أحقية في الأرض من منطلق تلمودي زائف، وهو أشبه ببناء شاهق دون أسس متينة، ويقوم على تجمع مهاجرين من مشارب مختلفة، يغتصبون أرض شعب آخر بوحشية السلاح ودعم القوى الاستعمارية.
فالكيان العبري يقوم في محيط مغاير له تمامًا من مختلف النواحي الدينية والثقافية والاجتماعية, ويمكن النظر إلى مستوطنة في الضفة الغربية _مثلًا_ مقامة بين مجموعة من القرى والبلدات الفلسطينية على أنها نموذج مصغر من الكيان, حيث الاختلاف بل التناقض الكلي الممزوج بعداء وعنصرية من الأقلية تجاه الأغلبية، وعليه إن مستقبل الكيان ضمن هذه الحالة ليس في مصلحة وجوده على المدى المنظور.
واعتمد الكيان العبري في مراحل وجوده على قوته العسكرية الباطشة وقدراته على إلحاق الهزيمة والخسائر البشرية والمادية بأعدائه من العرب والفلسطينيين, ولكن قدرة الكيان على تحقيق الانتصارات تراجعت وباتت محل شك, حتى في الأوساط الإسرائيلية.
فالكيان قادر بفعل تفوقه الجوي على قتل عدد كبير من المدنيين وتدمير البيوت والمنازل والبنى التحتية, ولكنه لم يستطع تحقيق انتصار ملموس في أكثر من مواجهة مع تنظيمات مسلحة بأسلحة خفيفة ومتوسطة, وبفعل التطور الذي راكمته المقاومة اللبنانية والفلسطينية في مجال الصواريخ باتت التجمعات السكانية الإسرائيلية تفتقد حالة أمان عاشتها مدة طويلة نسبيًّا, وصار نزول المستوطنين في الجليل والساحل والنقب إلى الملاجئ أمرًا روتينيًّا عند كل مواجهة, وهذا يعني ضمنيًّا أن مجتمعًا عماده مهاجرون يهود من مختلف بقاع العالم لن يصمد في حال طورت المقاومة أدواتها القتالية, وأبدت قدرة على مواصلة استنزاف الكيان الذي أقرّ صراحة بتآكل ما يسميه قوة الردع.
ويعاني الكيان من عقدة الشرعية وهوس الاعتراف به, إلى درجة أنه يضع طلب الاعتراف على الطاولة في كل مناسبة من منظمات وأحزاب وفعاليات.
أما قدرة الكيان على اختراق المجتمعات والدول فظلت محدودة, مع كل ما نعرف وما لا نعرف من تأثيرها, لأنه واظب على إقامة علاقات مع النخب السياسة والعسكرية وبعض رجال الأعمال, دون أن يتمكن من النفاذ إلى لب المجتمعات, مع كل ما أنفق من جهد ومال لهذا الهدف, وظل كيانًا مبغوضًا من الغالبية الساحقة، ولا يبدو ثمة تحوّل في هذا الشعور نحوه.
وإن المنطقة العربية في السنوات الأخيرة تشهد تغيرات حادة، وإن كان الكيان يبدو في أمن وأمان, بفعل انشغال محيطه بخلافاته الداخلية, التي وصلت إلى حد الاقتتال والحروب الأهلية والانقسامات الجهوية والطوائفية, ولكن التأمل في عمق المشهد يظهر أن التفاعلات الجارية مع كل ما فيها من وقائع مؤلمة ومحزنة ستفضي حتمًا إلى حالة معادية صراحة لوجود الكيان، ولو بعد حين، وإلا بماذا نفسر _مثلًا_ بناء الجدران العازلة على حدود دول يقيم الكيان معها علاقات ووقع معها معاهدات صلح وسلام؟!
ومن الواضح حاليًّا أن نقاط القوة عند أعداء الكيان كثيرة ومتنوعة, ولكنها مشتتة وغير مجتمعة, ولا تصطدم غالبيتها مع نقاط ضعفه المذكورة وغير المذكورة في السطور السابقة, ولكن هذا أمر مؤقت، ولن يدوم بفعل التدافع ومسار الحياة الإنسانية تاريخيًّا.
ومن نقاط قوة أعداء الكيان انعدام القدرة الإسرائيلية على إحداث تصفية بشرية ومادية لكتلتهم الكبيرة, حتى لو افترضنا أنه يملك كما يقال أكثر من مئتي رأس نووي, ولو أصاب قادته الجنون وفكروا بهذه الخطوة الانتحارية, أي استخدام أساليب الإبادة الجماعية؛ فإن النتيجة أنهم بهذا يوقعون موت كيانهم.
ومن عوامل قوة أعداء الكيان أنه يسعى إلى الاعتراف بها "دولة يهودية", علمًا بأن عدد يهود العالم جميعًا أقل من عشرين مليون نسمة, وهو في عداء مع مليار ونصف مليار مسلم, حتى لو قلنا إن هؤلاء حاليًّا ليسوا في حالة حرب معلنة مع الكيان؛ فإن التناقض العقدي والثقافي والاجتماعي لا يمكن التغافل عنه.
أيضًا الكيان بجرأته المتزايدة على القدس والمسجد الأقصى سيفجر عوامل قوة كامنة لدى من يُظنّ أنهم في حالة ضعف واستسلام وعدم مبالاة, ومشحونون بطاقة متجددة, ويتمتعون بإمداد ومخزون حضاري حقيقي, لا أساطير وأوهام وخزعبلات.
ولكن إذا كان الكيان قد تمكن من جعل نقاط قوته في مواجهة نقاط ضعف أعدائه خلال العقود الأخيرة غالبًا؛ فكيف يمكن تغيير هذه المعادلة في ظل دعم أمريكي سافر يصل إلى حد ظهور الأمريكان صهاينة يهودًا أكثر من نظرائهم في المستوطنات داخل فلسطين؟
لا أحد يستطيع تقديم إجابة أكاديمية مباشرة عن السيناريوهات المحتملة, خاصة أن التفاعلات والأحداث في المنطقة تسير بوتيرة متسارعة, يبدو فيها الكيان قوة فاعلة تستطيع جعل مخططات كانت في الماضي ضربًا من الخيال والهذيان واقعًا مطلوبًا التكيّف أو التعاطي معه.
ولكن أرى أن الأهم معرفة الأمة _وعلى رأسها الشعب الفلسطيني_ عوامل ونقاط القوة لديها, وكيف يوظفها ويجمعها لتصطدم بعوامل الضعف لدى الكيان, وهذا أمر ليس سهلًا، ولكنه ليس محالًا, و يحتاج إلى معركة وعي, وكان من أهم المعارك الإسرائيلية معركة صياغة وعي الأمة عامة، وكي الوعي عند الشعب الفلسطيني خاصة.
قلة لا تذكر توقعت قيام المشروع الصهيوني في فلسطين، وقلة توقعت استمرار وجوده هذه العقود، كان هذا يبدو وهًما وخيالًا عند كثير من العامة والخاصة، والآن ربما كثيرون يرون ما تقدم من كلام مجرد أحلام أو أوهام، ولكن حقائق اليوم هي أحلام الأمس، وأحلام اليوم هي حقائق الغد، وقدر الله نافذ.