الأوضاع في غزة تتدحرج بشكل غير مسبوق لم تشهده في السنوات الماضية. غزة التي تعيش في حصار مطبق وتضييق خانق وتخضع لضغوط متواصلة منذ ما يزيد على أحد عشر عاما كانت قادرة على التعاطي دوما مع الظروف والمتغيرات وتتعايش مع أزماتها المختلفة إلى أن حدث هذا الشلل الذى أصاب قلب غزة من جراء تصرفات وإجراءات عقابية غير مسؤولة من قبل رئيس السلطة تبعها خطوات أخرى من قبل الكيان الصهيوني والادارة الامريكية مست بشكل خاص شريان الحياة لسكان القطاع لتصنع هذه الاطراف أسوأ كارثة في قطاع غزة، تعكس عدوانا ثلاثيا قاسيا في تعامله مع القطاع ضمن حرب حددت أهدافها بليل وأسدل الستار عن تفاصيلها بشكل مسبق.
لقد أدت مجموعة من العوامل إلى الحالة الانسانية المتدهورة في غزة والتي لم تكن عفوية أو نتيجة إحباط الغزيين أو إيمانهم بالاستسلام لأعداء غزة لكنها خطة مدروسة نسجت جيدا ووضعت شباكها وزرعت ألغامها في طريق صمودنا ورهاننا على هزيمة الاحتلال وكسر الحصار .
ما يؤسف له أن يغدر أهل غزة بخطوات من السلطة خطها الرئيس محمود عباس، عندما توعد شعبه في غزة بإجراءات عقابية غير مسبوقة في نشوة غريبة للإطاحة بها وتفكيك كل مقومات صمودها في مواجهة الحصار، ولم يسلم من هذه الخطوات موظفو السلطة أنفسهم. وتصاعدت الخطوات بدءا من الخصم على الرواتب وقطع الكهرباء ووقف جميع المساعدات وعدم توريد الأدوية والمستلزمات الطبية وتخلي الحكومة عن ممارسة أي دور إنساني أو إغاثي تجاه قطاع غزة وإقصائه عن أي موازنة للحكومة.
ترافق ذلك مع إغلاق متواصل لمعبر رفح والذي ألقى بظلال كارثية على حياة المرضى والطلبة وأصحاب الإقامات. وفى ظل تشديد الاحتلال لإجراءاته وتضييق الخناق على السكان وممارسة أقصى مستوى من الضغط على غزة كما صرح بعض قادة السلطة والذين تواترت تصريحاتهم وتهديداتهم بتنفيذ خطوات محكمة ضد غزة وصولا الى الحرب الشاملة. فباتت غزة تتعرض لانتهاكات واضحة وجرائم تمارس ضد الانسانية في غياب واضح لأدنى مقومات العدالة وفى تجاوز واضح لكل المواثيق الدولية وتأتي مخالفة لمبادئ حقوق الانسان وما تنادي به الامم المتحدة.
لقد نالت إجراءات السلطة العقابية من كافة الحقوق الشخصية والقانونية والسياسية المتعلقة بسكان قطاع غزة، فقد أضرت بالحق في الحياة والحق في تلقى العلاج والحق في التعليم والحق في السكن الكريم، وغيرها من الحقوق الأساسية التي باتت مهددة في ظل ممارسات ممنهجة لمصادرة الحقوق التي ناضلت الشعوب على مر التاريخ لانتزاعها من الحكام.
ولعل النسب غير المسبوقة التي وصلتها غزة من مستويات الفقر والبطالة والعجز في الكهرباء وتلوث المياه تكشف عن حجم الكارثة الانسانية، فعلى سبيل المثال لا الحصر، وصلت نسبة الفقر إلى ما يزيد عن65%، وارتفعت البطالة إلى ما يزيد عن 55%، وبلغت نسبة العجز في الكهرباء ما يزيد عن 63%، وبلغت نسبة التلوث في المياه الجوفية نحو 97%، ونسبة تلوث مياه البحر وصلت ما يزيد عن 70%.
ويظهر جليا أشد الازمات فتكا وخطورة قيام الادارة الاميركية مؤخرا بتقليص الدعم عن وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "أونروا" ليؤثر ذلك على مختلف الخدمات التي تقدمها الوكالة الأممية، خصوصاً الصحة والتعليم والخدمات والمعونات الانسانية، ليشكل ذلك اعتداء واضحا على حقوق ملايين اللاجئين المنتشرين في مختلف مناطق اللجوء، خصوصاً في قطاع غزة. ولا تقتصر الأزمة على الخدمات، بل تمس رواتب نحو ثلاثين ألف موظف موجودين على رأس عملهم في مناطق عمل الوكالة الخمس، بينهم 13 ألف موظف وحدهم في غزة.
إن الإحصائيات السريعة تكشف كيف يدفع قطاع غزة إلى الهاوية إنفاذا لمشاريع تصفوية تتكاتف فيها أطراف عدة، ويتبادلون أدوارا إجرامية بعيدة عن كل القيم الإنسانية. وذلك لتحقيق أهداف الأطراف بتضييق الخناق على غزة والسعي لتدمير مقدراتها. وهذا يؤكد أن خصوم غزة وإن اختلفت أشكالهم ومرجعياتهم فقد التقت وتشابكت مصالحهم في نزع سلاح غزة والقضاء على المقاومة لتنفيذ مشاريع تصفية القدس واللاجئين والأرض، وإنهاء كل الثوابت والحقوق وفرض واقع جديد من الاستسلام يتساوق مع المصالح الامريكية والصهيونية.
تتابع الازمات الكارثية وتعدد الاطراف المؤثرة في المشهد، وتصاعد الهجمات الاعلامية والتصريحات الموجهة وانعكاس ذلك على الارض بشكل كارثي يؤكد وقوع قطاع غزة تحت وطأة حرب شاملة، وعدوان متعدد الأطراف وصولا لتفكيك غزة، وهذا يعني حدوث انهيارات متوالية ومتسارعة في كافة مرافق الحياة في القطاع، ليقع مصير ومستقبل القطاع تحت تصرف الاحتلال الإسرائيلي ويكون لقمة سائغة بين أنيابه ، يطحن بها كل حقوقنا الوطنية المشروعة ويعيد المشهد فيها بصورة جديدة تخدم المشروع الصهيوأمريكي في المنطقة.
قد ينعكس ما تتعرض له غزة إلى تداعيات وآثار خطيرة وتنحرف الأوضاع باتجاهات قد تضر بمصالح الاطراف المعنية بالهدوء والاستقرار في المنطقة. لأن غزة ورغم كل الجراح قادرة على الصمود في مواجهة المؤامرة كما صمدت على مدار عقود من المؤامرات والحروب.
وهنا أما آن للرئيس محمود عباس أن يتحرك ويتخذ مواقف أكثر وطنية تجاه غزة؟ أم أن غزة لا تمثل أهمية في مشروعه السياسي.. إن الغزيين وهم يضمدون جراحهم يرقبون موقف مسؤول من عباس بدلاً من مواقفه المخجلة التي راكمت المعاناة الانسانية لغزة.
ولا نغفل عن المسؤولية الدولية تجاه قطاع غزة كمنطقة محاصرة وتقع تحت احتلال غاشم يمارس كافة أنواع الجرائم والانتهاكات ويستمر في تنفيذ جريمة الحصار التي لم يكف المجتمع الدولي عن التنديد بأقسى الكلمات بتلك الجريمة البشعة .. لكن تهرب المجتمع الدولي عن القيام بخطوات عملية تلزم كيان الاحتلال برفع الحصار والقيام بمسؤولياته تجاه غزة، لا تعفيه من مسؤولياته الاخلاقية والانسانية والقانونية تجاه مليوني فلسطيني محاصرين في قطاع غزة.