عندما لا تستطيع أوروبا مجرد التعبير عن موقف صادق تجاه القضية الفلسطينية فإنها بذلك تشوه صورتها الحضارية وتضع علامة استفهام كبيرة على دورها في الحضارة الإنسانية المعاصرة.. وتضعها أيضا تحت المساءلة حول دورها المستعمر الذي مارسته في القرن الماضي وهل تخلت عنه بالفعل؟ فما زالت بريطانيا مثلا متمسكة بوعد بلفور وقد احتفلت به بعد مرور مائة عام وصفعت كل من يعول على دور ايجابي لها في القضية. موقف الاتحاد الاوروبي يحاول جعل مسافة بينه وبين الموقف الامريكي المعادي ولكن على المحكات نجده لا يبتعد كثيرا.
وعلى اعتبار من اعتبروا الحضارة الانسانية حضارة واحدة ولكن كل أمة تسهم في هذه الحضارة إما ارتفاعا أو انخفاضا، نجد أوروبا في حالة صعود حضارية بلا شك وتسهم في الحضارة الانسانية بشكل كبير وفي نفس الوقت لا نجدها تنتصر للقيم الحضارية اذا تعارضت مع مصالحها وكانت تخص شعوبا غير شعبها! فكما هو متوقع من دول ذات شأن حضاري أو تملك رسالة حضارية ألا تتناقض مع قيم هذه الرسالة، وكما هو متوقع من أوروبا التي دخلت دائرة الاستعمار واستعمرت غيرها من الدول الفقيرة والضعيفة فترة من الزمن وأدى هذا الى سقوط ملايين الضحايا ومعاناة طويلة لهذه الشعوب الى يومنا هذا كنتيجة لهذا الطغيان، كان من المتوقع بعد أن ثارت أوروبا الى رشدها الحضاري! أن تكفر عن هذه الخطيئة وألا تناصر ظالما على الاقل وأن ينسجم موقفها السياسي مع الشعوب المظلومة والمقهورة خاصة تلك التي تخضع لاحتلال مارست مثله اوروبا قريبا مثل الشعب الفلسطيني.
أما أن نجدها تتلكأ أو لا تستطيع الخروج من ربقة الطغيان الامريكي وغير قادرة على اتخاذ موقف صادق فهذا ضرب لصورتها الحضارية في العمق وكشف لادعاءاتها القيمية ولرسالتها الحضارية. وضرب كذلك للذين يطرحون النموذج الاوروبي كفكر مقدس وقيم راقية لا تشوبها شائبة، أولئك الذين صدعوا رؤوسنا بالقيم الليبرالية وراحوا بنا بعيدا عن هويتنا الثقافية الى حيث ثقافة الاوروبي المتحضرة والمتمدنة والتي لا مثيل لها.. لقد كشفتكم المواقف الاوروبية الظالمة.. أرتنا كيف تسيرها المصالح وكيف تضرب بعرض الحائط كل القيم الانسانية اذا تخالفت مع مصالحها السياسية والمادية.
ولو عدنا لايام ما كانت قيادة الحضارة الانسانية للعرب والمسلمين حيث كان هناك رسالة حضارية واضحة وكانوا دعاة قيم وكان أهم ما لديهم هو تصدير هذه القيم وضرب أروع الامثلة في تطبيقها على الناس على قدم سواء غير المسلم قبل المسلم، لم يكن هناك مكيالان مكيال للمسلمين وآخر لغير المسلمين كما تفعل أمريكا وأوروبا اليوم بل مكيال واحد للناس أجمعين.. عندما انتهكت حقوق الانسان مع قبطي في مصر كان لعمر بن الخطاب أن يقول قولته العظيمة: متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟ قال الناس ولم يقل المسلمين لأن قيمة الحرية حق لكل البشر.. اليوم أوروبا لا تنظر لهذه القيمة مثلا أنها حق لكل الناس.. لماذا لا تقول أوروبا لدولة الاحتلال التي تسوم الشعب الفلسطيني سوء العذاب هذه المقولة؟ لماذا تدعم المستعمر في عشرات الامثلة وتدعم حكاما طواغيت على شعوبهم لأن مصالحها مع هؤلاء الحكام؟ ولماذا ولماذا؟؟ كان أيام الفتح الاسلامي أيام نشر لقيم العدالة والحرية وتحرير البشر كل البشر من سلطة الطواغيت لذلك كانت الشعوب تدخل الاسلام.
أوروبا الآن أمام أسئلة حضارية برسم الاجابة فإما أن تمثل الحضارة الانسانية بشكل متكامل ومكيال واحد أو أن تتنحى جانبا فقد فشلت في تجسيد الحضارة الانسانية بشكلها الصحيح، وهذا ينذر بأن تداول الايام أصبح قريبا.. إما أن تأخذ بالرشد الحضاري أو أن تأخذها سفاهتها الى حيث الزوال كما زالت من قبلها حضارات كثيرة..
وهنا أذكر أنني أتحدث عن الصفة العامة للاتحاد الاوروبي وأدرك أن في السياسات فوارق بالتاكيد بين دولة أوروبية وأخرى.