ثبت بما لا مجال للشك فيه أن الأسرى في السجون الإسرائيلية حقل تجارب لشركات أدوية إسرائيلية، وهذا العمل ليس إهمالًا طبيًّا، وإنما جريمة مفتوحة أدت إلى القتل، وزراعة أمراض خطيرة وسرطانات في أجسام مئات الأسرى، ولا يوجد دليل على ذلك أقوى من مطالبة عضو الكنيست داليا إيتسك بوقف هذا العمل، ولكنه ما زال مستمرًّا وما زالت الضحايا تتوالى من مدافن الأحياء وحقول التجارب الإسرائيلية.
في عام 1998م كنت بمشفى الرملة وشاهدت حجم الجريمة بأم عيني، وكتبت بناء على شواهد حية كتاب مدفن الأحياء، الذي ألقوا القبض عليه فور انتهائي من الكتابة، وعندما عدت إلى سجن عسقلان كتبته ثانية ليخرج ويرى النور ويفضح مأساة الأسرى المرضى وفنون تقديم العلاج لهم.
الأسرى المرضى في سجن داخل سجن، يجدون أنهم ليسوا فقط بين أربعة جدران محشورين في زنازين ضيقة، وإنما أيضًا في متاهة المرض والطرق الملتوية والمميتة التي يتابع فيها الأسير المريض، تشخيص المرض قصة طويلة، إذ ما بين الشعور بالألم والذهاب إلى العيادة واعتراف طبيبها بأن الذي بين يديه مريض رحلة تستغرق أسابيع وأشهرًا، وقد تمتد إلى سنوات، إذا اقتضى الأمر صورة أشعة أو فحص مختبر. لابد أن يمرروه في متاهة تجارب ضربة حظ، يبدأ مدة طويلة بـ"الأكمول"، هذه الحبة السحرية التي تصرف دون أي تفكير، ثم بعد أن تفشل حبة "الأكمول"، وتصل الحالة إلى درجة الصراخ وعدم احتمال الآلام يوضع على الدور للوصول إلى مشفى السجون المدعو مشفى الرملة لينقل عبر "البوسطة" التي تزيده مرضًا، ويفاجأ المريض بالمشفى: يجده سجنًا لا يختلف عن السجون سوى وجود من يلبس اللباس الأبيض، مع أنه عندما تدق ساعة القمع يجده بعدة القمع والبطش، هو نفسه الذي يقدم حبة الدواء يبطش بالهراوة والعصا الكهربائية.
وفي "مدفن الأحياء" تحدثنا عن الذين استشهدوا نتيجة سياسة القتل المتعمد، ولا أقول الإهمال الطبي، لأن الإهمال قد يحدث في أي مشفى، أما ما يجري في السجون فهو طريقة ممنهجة للقتل البطيء دون أن تظهر عليه علامات القتل، والقائمة التي قتلت بهذه الطريقة طويلة: جعفر عوض الذي عرضنا تجربته في فيلم مدفن الأحياء، وميسرة أبو حمدية، ومعزوز دلال، ويحيى الناطور، ومحمد أبو هدوان (...).
رزق العرعير المعروف بالخال في السجون كان محكومًا عليه بسبع وعشرين سنة، قد بقي منها ستة أشهر، ورفضوا الإفراج عنه، مع خطورة حالته الصحية، دخل حقل تجاربهم، ومن مسلخ الرملة حولوه إلى عملية قلب مفتوح، وعاد منها ناجيًا ظهرًا فاختلف عصرا ليخرجوه إلى العيادة، ثم عادوا يطلبون منا شرشفًا أبيض، وهذه علامة عند الأسرى أنه انتقل إلى الرفيق الأعلى، أي إجرام هذا؟!، حتى وفاته بعد حبسة طويلة بين أبنائه وأحفاده يحرمونه، ويصرون أن يقضي أنفاسه الأخيرة بين أنيابهم.
أنس شحادة حي يرزق، يجرون له عملية الزائدة الدودية دون تخدير، نجا من براثنهم بأعجوبة، وهناك من كانت حالاتهم خطيرة داخل السجن، وبعد إطلاق سراحهم وتلقيهم العلاج الصحيح تحسنت أمورهم وتعافوا تمامًا، إذ ثبت أنهم لم يتلقوا العلاج المناسب في أثناء وجودهم بالسجون، وهناك في الوقت نفسه من حصل له مضاعفات للمرض وانتشر ليصل إلى درجة يصعب فيها علاجه، حتى إذا أطلقوا سراحه استشهد خارج السجن.
حسين عطا الله المحكوم عليه بالسجن اثنتين وثلاثين سنة يصاب بالسرطان ويستشهد، بعد أن أمضى في سجنه إحدى وعشرين سنة، متى أصيب بالسرطان؟، وكيف شخصت حالته؟، وفي أية مرحلة؟، وما العلاج الذي تلقاه عندهم؟، كل ذلك يحتاج إلى تحقيق من قبل جهة محايدة لنثبت ما ثبت في حالات سابقة كثيرة، ولنصل إلى أنه ضحية سياسة قتل متعمدة.
ويبقى سؤال مطروحًا علينا وعلى كل المؤسسات العاملة في شئون الأسرى: متى تشكل هذه الحالات ضغطًا عالميًّا يظهر حجم جريمة الاحتلال في حق أسرانا المرضى؟!، لم تتابع أية حالة في محكمة الجنايات الدولية، ولم تتحول سياسة القتل هذه إلى قضية عالمية تفضح هذا الاحتلال وتكشف حجم جريمته بحق أسرانا، مع حصول مؤتمرات متعددة، وصدور توصيات بأن الأمر يحتاج إلى من يتابع التوصيات حتى النهاية.