هذه المرة أتحدث كشاهد عيان: كنت شاهدا عندما اختارتني اللجنة الوطنية العامة للفصائل الفلسطينية في سجن كفار يونا عام 1999 للإشراف على أشبال السجن تربويا وثقافيا لمدة سنة كاملة فاطلعت على معاناتهم بكل تفاصيلها ثم كنت شاهدا أيضا بعد ثماني سنوات عندما كانت ابنتي مع أمها في السجن وخرجت بعمر السنتين وشهرين فعاينت نفسية طفلة غضة طرية قد وقع عليها قهر السجان بداية رحلة عمرها..
عندما جاءنا تسعة وثلاثون طفلا نحن المعتقلين الكبار في سجن كفار يونا وجدنا أنفسنا أمام صدمة من العيار الثقيل.. كان أحدنا قد اعتاد على رؤية أطفاله خلف الشبك في زيارة سريعة لا تكاد تبدأ حتى تنتهي فيعود الطفل إلى حضن أمه بعد أن رأى أباه وقد قطع شبك الزيارة وجهه إلى قطع صغيرة.. رأى أباه متناثرا متلاشيا وكأنه طيف شبح عابر، ورأى الأب المعتقل طفله أيقونة بريئة لا تحتمل رؤية السجن وما فيه من مآسٍ رغم كل الابتسامات والضحكات التي يتفنن الآباء في صناعتها والتدرب عليها كي يخففوا من وقع الصدمة على أبنائهم..
أما أن يَرى أطفالا يسيرون على أقدامهم داخل الفورة "ساحة السجن" ثم يعودون لدفن أرواحهم الصغيرة في زنازين لا تتسع إلى خيال طفولة ولا إلى براءة أرواحهم الصغيرة.. يا إلهي، أنى لهذه القلوب الرقيقة أن تحتمل المبيت في هذه الصحاري القاحلة.. لا شيء فيها سوى عوائهم ونبح كلابهم..
كيف ينام هذا الطفل تحت بطانية لا يجد في ثناياها دفء أمه؟ كيف تُغمَض عيناه على صورة بؤساء مثله تتقاسمهم أصوات الحديد الصدئة؟ ستداهم روحه ليلا صورة المحقق الشرس الذي أخرج له أنياب الحكايات المرعبة، يرى الغول والذئب دون ليلى وصورة الجندي الذي وضع القيد في يديه وألقى بالكيس النتن على رأسه ورمى به في غياهب زنزانة لا حدود لقسوتها.. لن ينام قبل أن يستعيد شريط الاعتقال من أوله إلى اللحظة التي بات فيها ينتظر لحظة انشقاق جدران السجن وظهور الشاطر حسن أو علاء الدين بمصباحه الجميل أو ذاك الذي يفك سحر الساحر ويعيد الأميرة إلى قصر أبيها.
أصبحنا في سجن "كفار يونا" مع انضمام الأطفال إلينا في عذابين: عذاب وجودنا في السجن أولا ثم عذاب السؤال الذي يطرق جدران وعينا: ماذا يريدون من هؤلاء الأطفال وهل يتحملون ما يتحمله الكبار؟ لم نجد أية فروقات في طرق العذاب، ما يكال للكبار يكال للصغار دون أية مراعاة لحقوق طفل أو احتياجات عمره الصغير أو ما حفظته البشرية بما يخص الأطفال واعتقالهم.. كنا وإياهم لنا نفس الأكل ونفس ساعات الخروج للساحة ونفس العلاج وعقم العيادة الشكلية وأساليبها بالمماطلة المقيتة ونفس البوسطة وعذاباتها ومرمرة الزيارة والعنت الذي يلاقيه الأهالي يوم الزيارة والمحاكم المعروفة بقسوتها وبعدها كل البعد عن أية عدالة أو محاولة للبحث عن أنصاف بحث جدي في التهم المنسوبة إلى الطفل.. ولم يكن لهم اعتبار تعليمي أو تطويري لأية مهارة من مهارات طفولتهم في متطلبات مراحلهم العمرية كأي اطفال في العالم.. كانوا يفتقدون أية وسيلة للعب أو الترفيه فكنا نخيط لهم كرة قدم قديمة كلما اهترأت أعدنا لها الحياة من جديد وكنا نضطر لابتكار ألعاب ترفيهية دون أدوات كمحاولة بائسة للتخفيف من آلامهم النفسية.
أذكر أننا خضنا إضرابا نحن الكبار فحرمونا من زيارة الأهل وأضافوا الأطفال إلى هذه العقوبة فاستمر هذا المنع لمدة ستة شهور.. وهل لك أن تتخيل طفلا موقوفا لا يعرف مصيره ولا ما ينتظره في محاكمهم اللعينة دون أن يزوره أهله ليزودوه ببعض الطمأنينة وما وصلت إليه المداولات مع محاميه، أو أن تأتيه أمه فيبث لها شيئا من حنينه وفراغ قلبه..
وإذا أردنا أن نتحدث عن طريقة الاعتقال والفترة الفاصلة بين البيت والسجن.. كيف انقض الذئاب على فريستهم وساقوها إلى وكرهم ؟ وكيف كان التحقيق؟ إذ ما رأيناه مع الطفل مناصرة من تصوير أثناء التحقيق معه إذ لم يكن تحقيق مخابرات وإنما تحقيق شرطة.. وهذا لا يذكر مع تحقيق المخابرات .. كيف يقضي الطفل الفلسطيني وحده منفردا في زنزانة مظلمة؟ وكيف يترقب فتح بابها ساعات طويلة جدا وأياما لا تكاد أن تكون لها نهاية ثم سحبه إلى زبانية العذاب ليقيموا له حفلة ليلية ويتسلوا على آلامه طيلة الليل... التقيت طفلا في زنزانة مجاورة، تواصلت معه فماذا كان مطلبه من رجل من جيل أبيه؟؟ نتابع إن شاء الله..