ثمة ظروف سياسية استثنائية تعيشها المنطقة العربية والإقليم، فرضت أوضاعاً شاذة غير مسبوقة تسعى لتبديل المفاهيم، وتزييف الوعي بالحقائق التاريخية، فيما تصل حدة الشذوذ لتسويغ عملية القفز على القوانين والتشريعات والأعراف الدولية.
ذروة هذه الأوضاع وصلت إلى مدينة القدس المحتلة، عقب ما هو متوقع على أبعد تقدير أن يكون منعطفاً تاريخياً خطيراً بإعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، الشهر الماضي، المدينة عاصمة لـ(إسرائيل)، المتضمن خرقاً قانونياً صارخاً، ليفتح الباب بعدها أمام انسياب الخروقات التي كان من أبرزها تصويت الكنيست الإسرائيلي، الثلاثاء قبل الماضي، على ما يعرف بـ"قانون القدس الموحدة"، في محاولة لامتطاء الموجة واستغلال الظروف السياسية القائمة.
وينص القانون الذي سبق أن طُرح في عام 2007، على أن "أي تنازل عن جزء من أراضي القدس الموحدة، لأي جهة كانت، ولأي سبب، يحتاج إلى موافقة 80 عضو كنيست إسرائيليا من أصل 120 عضوا"، على عكس القانون السابق، الذي عرف بأساس القدس، والذي نص على موافقة 61 عضوا على الأقل".
وينسف القانون الإسرائيلي الجديد جملة من التشريعات الدولية تتعلق باحتلال الأراضي الفلسطينية، وتحديداً مدينة القدس، أكدتها خلال العقود الماضية الجمعية العامة للأمم المتحدة، ومجلس الأمن، اللذان يعدان مصدر التشريع القانوني الأممي، حيث تؤكد هذه المنظومات على أن القدس أرض محتلة، بينما كافة التدابير الإسرائيلية المتخذة في المدينة، سيما بعد ضمها عام 1967 تعد باطلة ولاغية قانونياً، كما أنها تخالف أحكام القانون الدولي.
ووفقاً لاتفاقيتي لاهاي لعام 1907، وجنيف الرابعة لعام 1949، فإن "الاحتلال الإسرائيلي لا يمكن أن يرتب أية حقوق أو آثار على حق السيادة الأصلي للشعب الفلسطيني، لأن الاحتلال لا يخوِّل بنقل السيادة على القدس إلى الدولة المحتلة، لأنه مؤقت ومحدود الأجل وفقاً لقرارات الأمم المتحدة".
ومن الناحية القانونية البحتة ليس لأي قرار سياسي أن يقوض الأسس التي يقوم عليها القانون الدولي أو يؤثر على قرارات مجلس الأمن الدولي، حيث يعتبر ما صدر عن المنظومة الأممية من قوانين يمثل قواعد راسخة في القانون الدولي، يقوم بالتالي على أساسها المجتمع الدولي، حيث إن من أهم مبادئ وتشريعات هذا المجتمع "حظر الاستيلاء على أراضي الغير بالقوة، إضافة لحظر ضمها".
وتجدر الإشارة إلى أبرز القوانين الصادرة بهذا الصدد كقرار رقم 2253 الصادر عام 1967 عن الجمعية العامة، والذي ينص على "دعوة إسرائيل إلى إلغاء التدابير المتخذة لتغيير وضع مدينة القدس"، إضافة لقرار مجلس الأمن بتاريخ 25 سبتمبر/ أيلول 1971 الذي يقول: "يؤكد المجلس - بأبسط وأوضح صورة ممكنة - أن كل الإجراءات التشريعية والدستورية التي تتخذها (إسرائيل) لتغيير معالم المدينة، بما في ذلك مصادرة الأراضي ونقل السكان، وإصدار التشريعات التي تؤدي إلى ضم الجزء المحتل من المدينة إلى (إسرائيل)؛ باطل ولا أثر له، ولا يمكن أن يغير وضع المدينة"، فضلاً عن قرار رقم 50/22 الصادر بتاريخ 4 ديسمبر/ كانون الأول 1995 عن الجمعية العامة، والمتضمن "شجب انتقال البعثات الدبلوماسية إلى القدس، وإعادة تأكيد معاهدتي لاهاي وجنيف على الجولان السوري".
والأهم من ذلك فإن قانون الكنيست يخالف بشكل مباشر وصريح قرار الجمعية العامة لعام 1980، التي "رفضت قرار (إسرائيل) ضم القدس، وإعلانها عاصمة لها، وتغيير طابعها المادي وتكوينها الديموغرافي وهيكلها المؤسسي ومركزها، واعتبرت كل هذه التدابير والآثار المترتبة عليها باطلة أصلا، وطلبت إلغاءها فورا".
ويمكن استخلاص –مما سبق- حقيقة أن احتلال الأراضي الفلسطينية أساسه باطل، فكيف لسلطاته أن تصدر قوانين أو قرارات تكرس احتلاله لهذه الأراضي، بينما تقول القاعدة القانونية إن "ما يبنى على باطل فهو باطل".
وأمام هذا الكم من التجاوزات والانتهاكات القانونية والأخلاقية والإنسانية، وأمام معطيات سياسية لا تسير في سياقات المنطق، ولا في صالح أصحاب الحق، تزدحم في الذهن أسئلة الرد بما هو ممكن أو متاح، في ظل الموازين والمعادلات الدولية والإقليمية السياسية.
يتقدم في الغالب في هذا الظرف أدوات الرد القانوني على سواها من الردود والآليات، مع التمسك بآليات الرد السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وغيرها من الآليات، فاللجوء للقانون، والإلحاح في تطبيق شرعة القوانين والمواثيق الدولية ورقة لا يجب إسقاطها من بين أيدي أصحاب الحق، لأهميتها على المدى المتوسط والبعيد في مواجهة السارق والمتغطرس، وفي جمع الحشد والتأييد الدولي، إضافة للتأكيد على سلوك المسار الشرعي والنظامي الحضاري في مقاومة ورفض سرقة الأوطان والتاريخ والتراث والهوية والثقافة.
لذا بات من الضروري بلورة موقف وآليات قانونية فلسطينية وعربية ودولية، تقوم على مبدأ التمسك بقيم القانون الدولي، وأهمية تشريعات الأمم المتحدة التي لا تعترف بالإجراءات الإسرائيلية على الأرض، والرامية لشرعنة سيادتها في القدس، والهادفة لتغيير الوضع القائم في المدينة من خلال ضمها بقرارات تخرق القوانين والمعاهدات والمواثيق بكافة أشكالها.
وهنالك خطوات عاجلة في هذا الإطار لا بد من اتباعها كتوجه الجامعة العربية لمطالبة المجتمع الدولي بضرورة ممارسة الضغوط على دولة الاحتلال لإيقاف أية إجراءات من شأنها الإخلال بالحقوق العربية والفلسطينية في القدس.
كما أن لخطوة موازية من جانب منظمة التعاون الإسلامي أن يكون لها أهميتها في إيصال احتجاج الشعوب الإسلامية التي تربو على المليار ونصف المليار مسلم، كما يزيد من أهمية هذه الخطوة أن يرافقها تقديم الدعاوى القانونية لدى المحاكم الدولية ضد إجراءات دولة الاحتلال، وأية أطراف تسعى لتغيير الوضع القائم في المدينة المقدسة لصالح دولة الاحتلال.
كما أن عقد قمم للجامعة العربية ولمنظمة التعاون الإسلامي تخرج بقرارات ذات أثر سياسي واقتصادي، من أهمها قطع دولها كافة علاقاتها واتصالاتها مع دولة الاحتلال، والإعلان عن المقاطعة بكافة أشكالها للجانب الإسرائيلي، سيكون لها التأثير الإيجابي في مجال لجم الانتهاكات الإسرائيلية، والتراجع عن قرارها، والمساهمة في إقرار الحقوق الفلسطينية والعربية والإسلامية في القدس المحتلة.
وللتحرك الفلسطيني أهميته البالغة في هذه المرحلة، على مختلف مستوياته الشعبية والمؤسساتية، من قبيل إعلان السلطة الوطنية الفلسطينية، والمجلس التشريعي الفلسطيني عن بطلان ورفض جميع القرارات الإسرائيلية الهادفة للاستيلاء على أي شبر من الأراضي الفلسطينية، كما أن إجراءات من نوع سحب الاعتراف بدولة إسرائيل، والتوقف عن التعاون مع الاحتلال بكافة أشكاله السياسية والأمنية والدبلوماسية، سيصب في مجرى زيادة الضغوط على الاحتلال، والتأكيد على مدى ارتباط قضية القدس بالروح والكيان والهوية والثقافة العربية والفلسطينية، وبأن المسألة تتعلق بوجودية هذا الشعب إلى جانب حقوقه في أرضه ومقدساته.
وترتبط هذه الخطوات بأخرى ذات طابع قانوني تشكل أهمية كبيرة، وتتمثل في مبادرة السلطة الوطنية الفلسطينية بتقديم الدعاوى القضائية إلى المحاكم الدولية المعنية بهذه القضايا، إلى جانب تعبير المؤسسات الحقوقية الفلسطينية عن رفضها للقرارات الإسرائيلية من خلال التواصل مع المؤسسات الحقوقية الدولية وإيضاح الموقف الفلسطيني بهذا الشأن.
وللفعاليات الشعبية أهميتها ودورها في إيصال صوت الشعب الفلسطيني من خلال استنفار كافة أطيافه الجماهيرية وفصائله السياسية ومؤسساته، وشرائحه وفئاته، وصولاً لتفعيل الانتفاضة الشعبية وتحويلها لثورة شعبية تشمل كافة الأراضي الفلسطينية، تعبر عن الغضب الشعبي تجاه قرارات الاحتلال واستهانته بالحقوق الفلسطينية.
وللتفاعل الشعبي في العالمين العربي والإسلامي أهميته في ذات السياق، حيث إن من حق الشعوب العربية والإسلامية أن تعبر عن رفضها للنهب الإسرائيلي للهوية والثقافة والمقدسات الإسلامية والعربية، كما أن من واجب هذه الشعوب أن ترفع صوتها وتدعو حكوماتها للتحرك في كافة الاتجاهات من أجل القدس، وما تمثله في وجدان كل عربي ومسلم ومسيحي، والتأكيد على حقوق الشعب الفلسطيني على كامل ترابه الوطني، وعلى عروبة فلسطين وبأنها جزء من الكل العربي والإسلامي.
كما أن للبرلمانات العربية والإسلامية دورا في إيصال نبض الشارع في بلدانها، والتعبير عن مواقف شعوبها تجاه قضيتهم المركزية، من خلال القيام بالعديد من الخطوات، من أهمها عقد جلسات طارئة تعبر عن الرفض لكافة القرارات والإجراءات الإسرائيلية، والإعلان عن بطلانها والتأكيد على الحقوق الفلسطينية والعربية والإسلامية في مدينة القدس.
بلا شك، فإن ما سبق من جهود وتحركات وفعاليات وإجراءات تعبر عن الرفض للقرارات الإسرائيلية تجاه القدس، وترفع الصوت عالياً أمام الانتهاكات الإسرائيلية، وغيرها من التحركات المقترنة بالعزيمة والصبر، والمثابرة وعدم اليأس من إحداث التغيير لصالح القدس وعدالة القضية الفلسطينية، سيكون في النهاية المانع لخطط دولة الاحتلال في فرض سيادتها على القدس بأي ثمن، وابتلاع المدينة بأرضها ومقدساتها، وتجيير هويتها وثقافتها لصالحها.
كما أن إبقاء جذوة شعلة النضال والكفاح بكافة أشكاله ضد الاحتلال، دون كلل أو ملل، والإيمان بعدم التسليم لمعادلات سياسية تقنع أصحاب الحق بالتنازل عنه تحت دعاوى تغيير الواقع السياسي، فالشعوب والأمم الحية لا تبيع روحها وهويتها وثقافتها تحت أي ظرف من الظروف، كما أن دروس التاريخ وحقائقه تحمل العبرة دوماً بأن لا حق يضيع طالما أن وراءه من يطالب به، مهما طال الزمن حتى استرداده.
ومن الضروري في هذا المقام الاستفادة من تجارب التاريخ الذي يقدم لنا نماذج حية تلخص دروس البطولات والإرادة الصلبة من أجل نيل الحرية والكرامة لدى العديد من شعوب الأرض، ولو بعد ردح من الزمن، كتجربة الشعب الجزائري الذي عانى من الاستعمار الفرنسي لأكثر من 130 عاما، ضرب خلالها المثل في حجم التضحيات التي قدمها قبل أن يبزغ عليه فجر الاستقلال.
فالتاريخ يشهد على أن الاستعمار خلق مجتمعاً جزائرياً مقاوماً لم يعرف اليأس والاستكانة، على الرغم من سياسات الاستعمار وانتهاكاته، التي عمدت على طمس الهوية الجزائرية، وتجهيل الشعب الجزائري بعدما قامت بهدم المعاهد والجامعات ومنع تعلم اللغة العربية.
ومع ارتكابه مجازر إبادة جماعية راح ضحيتها ما يقرب من المليون ونصف المليون شهيد، بقي الجزائريون على موقفهم الصلب من الاستعمار، فقاوموه بشتى الوسائل، ورفضوا استبدال ثقافتهم العربية والإسلامية بثقافة المستعمر، وكانوا كالقابضين على الجمر حتى تحقق لهم حلم الاستقلال.
أما في الهند فقد انتصرت الثقافة الوطنية للشعب على ثقافة المحتل البريطاني، بعدما مارس أشكالاً من المقاومة، كان من أبرزها ذاك النمط في المقاومة الذي ابتكره المهاتما غاندي، حين أطلق ثورة العصيان المدني الشامل (أو حركة اللاعنف) في البلاد.
قاد غاندي خلال فترة نضاله ضد الاستعمار حملات وطنية هدفت لتخفيف حدة الفقر، ودعم المهمشين في المجتمع، ودعم حقوق المرأة، والاعتماد على الذات في المجال الاقتصادي، فضلاً عن تنظيم الاحتجاجات التي قادها مع الفلاحين والعمال ضد الضرائب المفرطة، إضافة لمقاومته لسياسات التمييز التي مارسها الاستعمار، ليظفر الشعب الهندي في النهاية بالاستقلال بعد أكثر من 80 عاماً قضاها تحت نير الاحتلال.
وفي التجربة النضالية للشعب الفيتنامي ضد الغزو الأمريكي دروس يسجلها التاريخ لصالح أمة لم تقبل ببيع كرامتها وحضارتها، وتصدت للمعتدي المحتل رغم التفاوت الهائل في موازين القوى، على الرغم من الخسائر والتضحيات الهائلة التي تكبدها المجتمع الفيتنامي من حرق لغالبية الحقول والمزروعات، وتدمير ممنهج لبنية البلاد التحتية، ولاقتصادها.
قاوم الفيتناميون التدمير بإعادة التعمير، وحرق الحقول بإيجاد البدائل للأراضي الزراعية، كما قاوموا منع التعليم من خلال حفر الأنفاق وإنشاء فصول دراسية تحت الأرض، وبلغت ثقافة المقاومة المجتمعية حداً جعل "الفلاحة الفيتنامية تضع الفأس على كتف، والبندقية على الكتف الأخرى"، بحسب المؤرخين.
وانتصر الشعب الفيتنامي بعد حرب ضارية استمرت لأكثر من 20 عاما، قدم خلالها أكثر من 3 ملايين إنسان كضحايا للحرب، إلى جانب الدمار الهائل الذي لحق بالبلاد، ليؤكد خلالها أن عزيمة الشعوب الطامحة للاستقلال والحرية وامتلاك إرادتها لا يمكن ثنيها بحال من الأحوال.