يعملون بصمت بعيدًا عن الضوء فوق الأرض وتحتها، بأناملهم يلمسون المواد المتفجرة وهم قاب قوسين أو أدنى من الشهادة في أي لحظةٍ محتملة، وهناك من يحفرون بسواعدهم أنفاق الحرية والتحرير، يعملون في بيئة صعبة قاسية حيث الرطوبة المرتفعة، فلا تمنعهم الانهيارات المفاجئة، والأتربة المتساقطة من مواصلة طريق المقاومة، هكذا يرسمون بدمائهم الطاهرة التي سالت واختلطت بأرض فلسطين طريق الخلاص والنصر، صنعوا المجد، وتحدوا جبروت المحتل بأدواتٍ بسيطة، لكنها عظيمة الأثر، لأنها غيرت المعادلة وقلَبت موازين كل شيء.
والإعداد هو سلسلة من الحلقات تبدأ باستقدام السلاح مرورًا ببناء الخنادق وتجهيز المقاتلين بالتدريب المتواصل، وليس انتهاءً بحفر الأنفاق وتجهيز العبوات والصواريخ وهندسة العمليات، وتصنيع الطائرات، والعمل في البر والبحر وتحت الأرض.
محطات
ثمة شهداء سيحفر التاريخ أسماءهم بحروف من نور، استشهدوا بعد إبداعٍ مديد في مرحلة الإعداد، ومنهم الشهيد عدنان الغول، كبير مهندسي القسام، ومخترع أول قنبلة يدوية فلسطينية، وهي (رمانة حماس)، ويعد "أبا صاروخ القسام" الذي تطور على يديه، ومن أبرز إبداعاته القسام والياسين والبتار، اغتيل في 21 أكتوبر 2004م بمدينة غزة.
وكذلك الشهيد نضال فرحات، أول مُصنع لصاروخ القسام عام 2001م، الذي استشهد في 16 شباط (فبراير) 2003م، في أثناء تجهيز طائرة صغيرة تعمل بالتوجيه عن بعد، وصلت إليهم في عمليةٍ معقدة، وكانت مُلغمةً، فانفجرت به وبرفاقه الشهداء: أكرم نصار، ومحمد سلمي، وإياد شلدان، ومفيد البل، وأيمن مهنا.
وبعد تطور العمل المقاوم، ومرحلة الأنفاق التي أُسر خلالها الجندي جلعاد شاليط عام 2006م، الذي أطلقت كتائب القسام سراحه في صفقة تبادل بين كتائب القسام والاحتلال في صفقة وفاء الأحرار عام 2011م، التي انتهت بإطلاق سراح نحو 1028 أسيرًا فلسطينيًّا؛ لا يمكن نسيان شهداء الأنفاق، خاصة شهداء الأنفاق السبعة من كتائب القسام، الذين استشهدوا في 28 كانون الثاني (يناير) 2016م، وهم: ثابت الريفي، وغزوان الشوبكي، وعز الدين قاسم، ووسيم حسونة، ومحمود بصل، ونضال عودة، وجعفر حمادة.
وزينت لوحة شهداء الإعداد إثر استهداف الاحتلال نفقًا للمقاومة شرق مدينة خان يونس، في 30 تشرين الأول (أكتوبر) الماضي؛ بـ12 عنصرًا من سرايا القدس وكتائب القسام، أخرج سبعة منهم، وسحب الاحتلال الخمسة الآخرين، والشهداء السبع هم: قائد لواء الوسطى في سرايا القدس عرفات أبو مرشد، ونائبه حسن حسنين، وثلاثة عناصر آخرين من السرايا، هم: عمر الفليت، وأحمد أبو عرمانة الذي رزقت زوجته بنتًا أسمتها حياة، وحسام السميري، وشهيدان من كتائب القسام، هما: مصباح فايق شبير، ومحمد مروان الأغا.
أما الخمسة الذين أعلن الاحتلال انتشالهم فهم: بدر مصبح، وأحمد السباخي، وشادي الحمري، ومحمد البحيصي، وعلاء أبو غراب، وهم من سرايا القدس.
عبد الرحمن المباشر الذي شارك في احتجاز الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط استشهد في 28 كانون الأول (ديسمبر) عام 2015م إثر انهيار نفق للقسام، ومن شهداء الإعداد كذلك الشهيد محمد وليد القوقا (37 عامًا) أحد أبرز قادة التصنيع بكتائب القسام، استشهد في الخامس من شباط (فبراير) الماضي، متأثرًا بجراحه التي أصيب بها في انفجار عرضي في أثناء الإعداد والتجهيز.
مراحل ومحطات
يقول الكاتب المحلل السياسي إبراهيم المدهون لــ"فلسطين": "يتعين علينا أن ندرك هذا، أن ليس فقط من يستشهد في أثناء الإعداد والتدريب ينضم إلى شهداء الإعداد، فهناك شهداء استهدفوا بسبب إعدادهم المتواصل، وعلى رأسهم الشهيد عدنان الغول مهندس التصنيع في كتائب القسام، الذي طور الكثير من الأسلحة التقنية للقسام، وكان له بصمات واضحة في العمل المقاوم".
ويستعرض المدهون في حديثه بدايات شهداء الإعداد، الذين قضوا نحبهم خلال الانتفاضتين: الأولى عام 1987م، والثانية (انتفاضة الأقصى) عام 2000م، فارتقى العديد منهم إبان تركيب العبوات الناسفة وتصنيع المواد المتفجرة، وكان أبرزهم: الشهيد نضال فرحات، صانع أول صاروخ قسام.
وتقدمت المقاومة بعد ذلك وتطورت أسلحتها وصولًا إلى استخدام سلاح الأنفاق، على وفق إفادة المدهون، فكان معظم شهداء الإعداد من العاملين في الأنفاق، فكانت مرحلة حفر الأنفاق أكثر خطورة من مرحلة صناعة المتفجرات، لأنها بحاجة إلى جهد بدني شديد، والتعامل مع البيئة في باطن الأرض الشديد الرطوبة، وكانوا كثيرًا يواجهون خطر الانهيارات الأرضية المفاجئة، وحالات اختناق، وكان أبرزهم شهداء الأنفاق السبعة، الذي ارتقوا في منطقة التفاح شرقي مدينة غزة، في كانون الثاني (يناير) 2016م.
مخ الجهاد
"شهداء الإعداد لهم باعٌ طويل في أي نصر تحققه المقاومة، فهؤلاء ضمانةٌ لإبقاء المقاومة في حالة عنفوان، فالإعداد مُخ الجهاد، فلا مقاومة دون إعداد، فهو لا يتأتى في يومٍ واحد وجولة واحدة، وإنما حالة تراكمية لا تتوقف، وهي من أعقد العمليات كون القتال العسكري يحتاج إلى جهد كبير قبل بدء المعركة، وهذا كله يقوم به مجاهدو الإعداد" يضيف.
ولدى شهداء الإعداد ميزة خاصة (والكلام للمدهون) فهناك من لم يعثر على جثته وظلت في باطن الأرض، ما يبقي جرح أهليهم مفتوحًا لا يندمل ولا يبرد، يتابع: "لشهداء الإعداد أهمية خاصة؛ فلولاهم لما تحققت الإنجازات عام 2014م، حينما أسر الجندي الإسرائيلي شاؤول أرون، وما استطاعت المقاومة مفاجأة الاحتلال في الكثير من المحطات".
ولهؤلاء الشهداء دور كبير في حفر الأنفاق، التي أسر عبرها جنود من جيش الاحتلال (يكمل)، ومن المتوقع أن تساهم في إتمام صفقة "وفاء الأحرار" الثانية، والإفراج عن آلاف الأسرى.
"ولم يقتصر الشهداء على من سبق، فهناك من المقاومين من أصيبوا بأمراض مزمنة نتيجة الاختناق، والجد والتعب، أو أمراض السرطان، فهؤلاء يعملون في بيئة صعبة وخطيرة، ويخاطرون بأرواحهم وجهدهم في سبيل هذه الطريق"، والقول للمدهون الذي يختم بـ: "إن كل ما يقال عن هؤلاء لا يوفيهم حقهم، لأن العزة الحقيقية تأتي من صبر وعرق هؤلاء الشباب، فهؤلاء الشهداء عملوا بعيدًا عن الضوء، ويجهل الناس حقيقة ما يقومون به من جهدٍ وتضحية".