كثيرة هي الأحداث التي عايشناها خلال السنوات الأخيرة، والتي أكدت حقيقة طالما هرب منها السياسيون الفلسطينيون والعرب، وجاءت التطورات الأخيرة لكي تمنحها مزيدا من التأكيد، تاركة السؤال الأكبر من دون إجابة حتى الآن، وهو هل ستؤدي تلك الأحداث فعلا إلى إقرار الساسة بها، أم سيواصلون مطاردة الوهمْ، مع العلم أنهم لا يستوون على هذا الصعيد؟ إذ إن من بينهم من يدرك تلك الحقيقة لكنه يتعامى عنها كي لا يذهب نحو الخيار الذي يفرضه ذلك الاعتراف، فيما كان آخرون يؤمنون بغيرها، وإن على نحو غير راسخ.
الحق أن الأحداث التي نشير إليها هنا ليست جديدة تماما، وربما امتدت لعقود؛ منذ الاحتلال الثاني عام 67، ثم تحديدا بعده بسنوات حين اعترف النظام العربي الرسمي بالقرارات الدولية، ومنح اعترافا ضمنيا للصهاينة بـ78 في المئة من أرض فلسطين.
لكن تطورات ما بعد أوسلو تبدو أكثر وضوحا، إذ عوّل الكثيرون على أن تطور السلطة التي أنشأها اتفاق أوسلو إلى دولة ما، تكون قابلة للحياة، بحسب التعبير الذي ساد في العقود الثلاثة الأخيرة، وتشمل القدس الشرقية أيضا، فيما تم التنازل الضمني عن تجسيد عودة اللاجئين إلى الأراضي المحتلة عام 48.
راهن ياسر عرفات رحمه الله على ذلك، ومعه النظام العربي الرسمي، لكن المسيرة انتهت باغتياله، ثم جاءت الجولة الجديدة بتوقيع ورثته، وهي التي انتهت إلى الخيبة، لتداهم الجميع التطورات الأخيرة عبر التشدد في خطاب نتنياهو، وانقلابه؛ حتى على ما عرضه أسلافه من قبل، ثم قرار ترامب بالاعتراف بالقدس عاصمة للكيان، وما بين ذلك من عمليات استيطان وتهويد، ها هي تأخذ شكلا وقحا في الأيام الأخيرة عبر إعلانات تترى عن برامج استيطانية واسعة النطاق في الضفة الغربية والقدس، وها هو حزب الليكود يصوّت بالإجماع لصالح ضمّ الضفة الغربية.
والحال أن مفاوضات كامب ديفيد، صيف العام 2000، كانت كافية لمعرفة أعلى سقف للتنازلات يمكن أن يقبل به الغزاة، إن كان في أمريكا زعيم “ديمقراطي” حريص على إنجاز الحل، فيما كان في السلطة في تل أبيب، من ينتسبون إلى اليسار، ويوصفون بالاعتدال، قياسا باليمين.
لكن ورثة عرفات لم يقتنعوا بذلك، وأعادوا المراهنة من جديد، ورأوا بأم أعينهم رد فعل أولمرت وليفني على تنازلات أكبر مما قدم في كامب ديفيد، لكنها لم تشبع شهية الاحتلال، وجاء نتنياهو ليرفض حتى مبدأ تجميد الاستيطان من أجل رحلة عبث تفاوضية جديدة، ولنصل إلى المرحلة الأخيرة التي مع ترامب وكوشنر، والتي تابعها الجميع.
كل ذلك أكد الحقيقة الكبرى التي يهرب منها الساسة، ممثلة في أن سقف الحل الذي يمكن أن يعرضه أي زعيم صهيوني لن تصل بحال الحد الأدنى الذي يمكن أن يقبل به أي زعيم فلسطيني، أكان من الموجودين، أم ممن يمكن أن يأتوا لاحقا، بما في ذلك الأسماء التي يراهن البعض عليها، كما هو حال دحلان، كما أن مراهنة الصهاينة على الزمن والنسيان هي مراهنة خاسرة؛ لأن الأجيال الجديدة لا تقل تمسكا بفلسطين من بحرها لنهرها عن القديمة.
وفي حين كان الوضع العربي أفضل قليلا، خلال مفاوضات كاميد ديفيد 2000، فإنه حتى الوضع البائس الراهن لا يمكن أن يقبل المعروض صهيونيا، وإن قيل إن هناك من دعمه بهذا القدر أو ذاك، ربما جهلا بأبجديات الصراع، وربما تبعا للحاجة إلى دعم أمريكي لا يأتي.
خلاصة القول هي أن كل ما جرى يؤكد الحقيقة الكبرى، وهي أن هذا الصراع لن يُحل بالتفاوض بأي حال، وهو بين خيارين، إما المراوحة بانتظار جولة كبرى تحسمه نهائيا، وإما اندلاع جولة أقرب تتمثل في انتفاضة شاملة تفرض على الاحتلال الانسحاب دون قيد أو شرط من الأراضي المحتلة عام 67. ولا شك أن المراوحة تمثل مصيبة يتحمل وزرها من يصرّون عليها، وليس الشعب الجاهز للمواجهة وتقديم التضحيات.