أتحدث في هذا المقال عن الذين لم يستفزهم قرار ترامب، والجريمة التي وقعت على القدس من قبل أعتى دولة في العالم، وهذا الانحياز الأعمى إلى كيان الاحتلال، هؤلاء الذين يترددون طويلًا ولم يتحركوا مع حركة الشارع الملتهبة، لماذا لا ينتفضون مع أنه قد صب على النار زيت كافٍ، وتوافر من مقومات انتفاضة بل ثورة ما يكفي لتفجيرها؟!، ما السبب وراء هذه البرودة؟
أولًا: لنأخذ بعين الاعتبار أنه قد اشتغل كثيرًا على ثقافة شعب الانتفاضة؛ فمنذ أوسلو أخذت البوصلة تنحرف، كان دوران الناس حول القضية شيئًا فشيئًا، نزل أغلبنا عن جبل القضية إلى حيث الغنائم، فأصبح الدوران حول الراتب والغنائم، غرق كثير منا في القروض والالتزامات المادية، فتحت الدنيا أبوابها عبر البنوك وقروضها، أصبحت هناك طبقة منتفعة، وفتحت استثمارات عريضة، وحملت بطاقة (VIB) التي يمنحها الاحتلال لمن يشاء ممن "رضي عنهم ورضوا عنه"، ثم بطاقة (BMC) ذات الامتيازات الأعلى، وهناك طبقة منتفعة من هذه الطبقة، وطبقة ثالثة مسحوقة، ولكن غرقت في همومها الدنيوية فضاعت القضية، وهنا لا أقول هلك الناس، وإنما هو توصيف لما كنا عليه ثم ما صرنا عليه، بعد أن اشتغلت علينا عجلة السلام المزعوم، وذهبنا إلى خيار الدولة الأسهل بالبدء بشكل الدولة قبل مضمونها، وإيهام الناس بأننا سائرون باتجاه الاستقلال، مع وجود الاحتلال، مع علمنا بأنه لا يقوم أي استقلال لأي شعب يرزح تحت احتلال إلا رغم أنفه.
ثانيًا: ثقة الناس بصانع السياسة الفلسطينية: هل سيستثمر النضالات والتضحيات والدماء باتجاه التحرير فعلًا؟، أم أنه سيذهب بها إلى حيث مصالحه الشخصية والحزبية والنفعية الضيقة، وسينقلب في منتصف الطريق إلى مشروع تسوية تضيع في تفاصيله مفاصل القضية: القدس واللاجئون والأسرى والمياه والأرض والسيادة والحرية الحقيقية؟، فلما رأى شعبنا بأم عينه من هندس أوسلو وأجل فيها جوهر القضية ما زال يصول ويجول في السياسة الفلسطينية؛ فكيف يثق بالاستفادة من تضحياته وتوظيفها على الوجه الصحيح، فلا تذهب سدى، ولا يصل إلى جدواها الحقيقية؟!، فضلًا عن أن هذه السياسة متناقضة؛ فتارة تعلن بعد إعلان ترامب أن هذا قد دمر عملية السلام، ثم ما تلبث أن تقول: "نحن متمسكون بعملية السلام"، تنتقض راعي السلام الذي مكن كيان الاحتلال من التهام القدس والتوغل الاستيطاني، ثم تكون المطالبة متواضعة جدًّا: "تبديل راعي السلام"، هذه أمثلة فقط تدل على خلخلة ثقة الناس بمن يتصدر قيادة العمل السياسي للقضية.
ثالثًا: الوضع الإقليمي وحال الدول العربية: صحيح أن شعبنا قد غسل يديه منذ زمن بعيد من الزعامة العربية، ومدى تأثيرها على مسار القضية الفلسطينية، ولكن المشهد هذه الأيام حالك وغير مسبوق في سوئه: التآمر والحروب العبثية التي لا خير فيها إلا لأعداء أمتنا وذهاب ثرواتنا لأعدائنا، وعدم وجود سياسة وطنية مستقلة تستفيد منها فلسطين، فقط يسمع الناس كلامًا ويرون فعالًا تناقض ما يقال في الإعلام، للاستهلاك المحلي فقط.
رابعًا: غياب القيادة الميدانية: من قاد انتفاضة الحجارة اليوم في العقد السادس من أعمارهم، وقد كانوا حينها في العقد الثالث، لقد شاخت القيادة، والمطلوب أن تتولد قيادة شابة لا تغرق في حسابات السياسة الطويلة، فتفقد روحها المتقدة الثائرة، ما زال الناس ينظرون إلى القيادة التي غزا الشيب رأسها وروحها، ومع ذلك ما زالت متمسكة بتصدر المشهد السياسي الفلسطيني كاملًا، وهنا لا أدعو إلى طردها من المشهد وعدم الاستفادة من مشورتها وخبراتها، ولكن لتعطِ الشباب المساحة المناسبة في قيادة الانتفاضة، لا نرى أحدًا في بلادنا يعتزل السياسة في مواقع القيادة، لا أحد يقبل أن يعود جنديًّا بعد أن صار قائدًا ردحًا من الزمن، أو أن يتنحى لمن هو أكفأ منه، ولا يوجد أيضًا آليات لتقدم القيادات الشابة، ديناميكية تداول القيادة وفتح الباب للمبدعين والناجحين عندنا فيها مشكلة، ومع الملاحقة الأمنية المتعددة الجهات يصبح الميدان لحميدان، وتطير منه القيادات القادرة على تحويل الصفيح الملتهب شعبيًّا إلى طاقة فاعلة سياسيًّا، وناجحة في توظيف نضالاتنا وتقريبنا من أهدافنا.
أعتقد أن هذه الأسباب الأربعة تحتاج إلى وقفة جادة، والناس تنتظر من يجيب عن تساؤلاتها، ويقنع العقل الباطني الجمعي، ويجيب عن أسئلته إجابات شافية، مجرم في حق شعبه من فشل ثم ما زال مصرًّا على تصدر العمل السياسي، مجرم من يجد من هو أكفأ منه ثم لا يفسح له المجال، مجرم من يقف في طريق الشباب المبادرين المبدعين، مجرم من يضيع نضالات شعبه عن قصد أو جهل، لابد من أن نفلت من آصار وأغلال تقيدنا وتثقل كاهلنا، لننتفض بل نثور ونتحرك بما يناسب حجم الجريمة التي صبها أعداؤنا على قلبنا النابض (القدس) بكل هذا الصلف وهذه البشاعة الفجة.