ممّا لا شكّ فيه أنّ كل عمل بشري يخضع للخطأ والصواب كما هي طبيعة البشر، ويحتاج من أجل نجاحه إلى ضوابط ومسلّمات تعتمدها المؤسسات التي تعتمد طبيعتها على علاقات جماعية، ومهام وتكليفات مختلفة ومتباينة، ومع زيادة المهام والأعباء يزداد الحرص على ضبط هذه الأنظمة لضمان سير العمل على خير ما يرام دون الوقوع في الظلم والشَطط.
ويشكو الكثير من الأفراد العاملين في المؤسسات على اختلاف مشاربها؛ من الإجراءات العقابية أو "الإقصائية" بحقهم، عندما تحدث معهم مواقف تفسّرها الجهة المسؤولة على أنها جُرم يحتاج إلى العقاب، فتجد أنّ هذه القرارات في غالبها تكون مبنية على ردود أفعال تجاه مواقف محددة، ويترتب عليها قرارات صادمة بحق الأشخاص المعاقبين.
ومعلوم أن أي قرار عقابي ينبغي أن يرتبط ارتباطاً وثيقاً بحجم الجُرم أو الخطأ الذي ارتكبه الشخص، فهناك فرق كبير بين من يقع في جُرم كبير كالخيانة أو السرقة مثلاً، فهو بذلك يكون قد نبذ نفسه وأصبح في مواجهة منطقية لاستحقاق خطئه، أما من يخطئ خطأً فنياً أو إدارياً يختلف فيه مع إدارته أو مسؤوله، ولا يترتب عليه مفسدة أو خسارة كبيرة، فمثل هذه الأخطاء يمكن معالجتها معالجة تدريجية بالتحذير مثلاً، أو إعطاء المخطئ مهلة لتصحيح خطئه، وتخويفه من العقاب الذي سيلحق به في المستقبل حال إصراره على الخطأ، بذلك يكون المسؤول قد استخدم أسلوب التدرج في العقاب، ولم يلجأ مباشرة "للإقصاء".
لكن الحقيقة المرّة؛ والتي لا تكتب في اللوائح للأسف، وما لم ينص عليه قانون؛ هي تلك القرارات التي تؤخذ على خلفية ردّات الفعل الشخصية تجاه موقف لم يعجب ربّ العمل، أو لم يتوافق مع مزاجاته أو توقعاته أحياناً، فيتخذ المسؤول مباشرة جُملة من القرارات بحق الشخص المعاقَب، وقد تكون هذه القرارات تسهم بتعطيل مهام تصبّ في خدمة المؤسسة، ولكن للأسف يأخذ المسؤول "راحته" بقراراته العقابية، في ظل الحرية والصلاحية التي تمنحه إياها إدارته، وهو ما يوقعه في الظلم والإجحاف بحق الشخص المعاقَب.
المسألة يا سادة.. في غاية الخطورة، فقد يفاجأ أشخاصٌ بقرارات إقصائية قاسية بحقهم، فيكون لهذه القرارات أثراً سلبياً واضحاً على صعيد الشخص والمؤسسة في ظل الحالة التي تسبّب بها قرار المسؤول، خاصة إذا كان الشخص المعاقَب يعمل في موقع مؤثر، وملقىً على عاتقه عبأً كبيراً، ويحقق نفعاً وفائدة واسعة لمؤسسته.
ومعلومٌ يا كرام... وكما يقول الحكماء والعقلاء أن كل قانون له "روح"، بمعنى أن القرار العقابي ليس بالضرورة أن يكون إقصائياً من بدايته؛ وإنما ينبغي على المسؤول أن يعطي مساحة كافية للمخطئ كي يعالج خطأه، فإن استجاب وعالج الخطأ عندها لا حاجة للعقاب، ولكن في حال إصراره على الخطأ فإنه عندها يستحق العقاب، أمّا أن يكون التعامل بردّات الفعل من اللحظة الأولى لقضية الخلاف أو الخطأ؛ فهذا ليس "عدلاً" ولا "إنصافاً".
إنّ من المؤسف حقاً.. أن يستعجل المسؤول في قراراته الإقصائية، دون مراعاة لموروث الشخص المعاقَب ومشواره الطويل في خدمة مؤسسته، ولعلّ خدمته هذه قد تكون شافعاً له أمام قرارات الإقصاء، حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم كان منهجه في ذلك: "أقيلوا ذوي الهيئاتِ عثراتهم"، فالشخص العاقل يقدّر جهود الناس، ومراحل خدمتهم وتضحياتهم، ولا يدير ظهره لحسنات الناس وإخلاصهم، وينسى المسؤول أو يتناسى أخطاء كثيرة قد يقع فيها، ويقع فيها مَن حوله من الجَوقة المقربة منه، والتي قد يكون حرصها على ترصّد أخطاء الآخرين أكثر من حرصها على تطوير العمل، بل قد يأتي القرار العقابي في مسألة لم تكن في تقدير المخطئ "خطأً"، أو قد لا يكون المعاقَب هو المسؤول عن الخطأ، فيكون في العقاب جرماً مضاعفاً، وظلماً إضافياً.
ختاماً.. فإن العمل في أي ميدان يحتاج إلى العقلانية وسعة الصدر في اتخاذ القرارات، وليتذكر "الإقصائيون" بأن الله سائلهم عن تصرفاتهم وقراراتهم؛ فلا يخسروا آخرتهم بدنيا غيرهم، لأنّ الخشية من أن يأتوا يوم القيامة صفراً؛ بعدما كانوا في الدنيا كباراً.