فلسطين أون لاين

كما يؤرّخ لها الباحث سليم تماري

القدس.. منذ النكبة حتى احتلال كامل فلسطين عام 1967

...
حاوره- يحيى اليعقوبي

تعرضت القدس التي أسسها الكنعانيون قبل ما يقارب 3000 عامٍ قبل الميلاد على مرّ التاريخ وعصوره للغزو والاحتلال، فتعاقب عليها الهكسوس والإغريق والرومان، حتى تمكنت جيوش الفتح الإسلامي من تحرير فلسطين لتصبح جزءًا من الدولة العربية الإسلامية، تشارك في أحداث التاريخ العربي حتى عهد الحكم العثماني الذي دام أربعة قرون.

قبل القرن التاسع عشر حين بدأت الحركة الصهيونية في محاولات إنشاء وطن لليهود في فلسطين بذرائع تاريخية "ملفقة" صارت الطلائع اليهودية تشد رحالها إلى "فلسطين"، وتنشئ المستوطنات قادمة من روسيا، بهدف استثمار القطاع الزراعي مع بداية عام 1884م، لتتسارع موجات الهجرة بعد توقيع اتفاقية سايكس بيكو 1916م، التي نصت على جعل فلسطين تحت الانتداب البريطاني ثم إصدار وزير الخارجية البريطاني في تلك الحقبة آرثر بلفور عام 1917م تصريحًا ينص على إنشاء وطن قومي لليهود هنا.

حرب عام 1948م وهزيمة الجيوش العربية، وعدوان 1956م، وعدوان 1967م، الذي نتج عنه ‏أن سيطر الاحتلال على التراب الفلسطيني كافة بعد أن احتل قطاع غزة والضفة الغربية، هذا ما نناقشه اليوم في حوارنا مع المؤرخ الفلسطيني كبير الباحثين في مؤسسة الدراسات الفلسطيني سليم تماري، الذي كتب العديد من المؤلفات عن القدس، وعلى رأسها كتاب "القدس عام 1948م".

الهجرة الصهيونية

بدأت الهجرة الاستيطانية اليهودية إلى فلسطين - بحسب إفادة المؤرخ الفلسطيني تماري - عام 1887م، حينما جاءت مجموعة من اليهود الروس واستوطنوا في منطقة الجليل والساحل الفلسطيني، وكان بعض اليهود يأتون من اليمن وبعضهم من المغرب والجزائر، كما بدأت الحكومة البريطانية عام 1917م بترتيبات وتسهيلات لهجرة العصابات الصهيونية إلى أرض فلسطين من شرقي أوروبا، واستقر القسم الأعظم منهم في الساحل الفلسطيني الغربي، وليس القدس.

وحينما انتهت الحرب - تبعًا لما ذكر تماري- أصبح شرقي القدس تحت الوصاية الأردنية، وبدأت تتمدد القدس من الجانب الشرقي باتجاه بيت لحم ورام الله، وتحول شكلها أكثر إلى المستطيل بدلًا من الشكل الرباعي، في حين كانت تمنع التضاريس الجغرافية الامتداد المقدسي من الجزء الغربي، وأصبح الجزء الغربي يتكون من أحياء يهودية حلت محل الأحياء الفلسطينية التي استولى الاحتلال عليها.

قرى القدس

أجلى الاحتلال في عام 1948م سكان نحو 39 قرية في الجزء الغربي من القدس، وهدم تلك القرى سوى قرية "أبو غوشة"، القريبة من منطقة دير ياسين ومنطقة "المالحة".

وبعض القرى بقيت بمبانيها، لكن الاحتلال هجّر سكانها كلهم، ومن أهمها قريتا "عين كارم" و"لفتة"، وذلك لأن "عين كارم" كانت تحت حماية بابا "الفاتيكان"، ولم يرد الاحتلال الإسرائيلي فتح صراع مع الفاتيكان في تلك المدة، وأما "لفتة" فأبقى الاحتلال على مبانيها حتى اليوم في محاولة لتحويلها إلى منطقة سياحية أو استعمالها سكنًا للطبقات الوسطى من الإسرائيليين والمستوطنين، وهذا ما يحاول أهالي القرية الذين ما زالوا قاطنين شرقي القدس ورام الله التصدي له بمعارك قضائية ضد الاحتلال.

"وطال التهجير عام 1948م 39 قرية في القدس، وكل السكان الفلسطينيين غربي المدينة، لاسيما سكان أحياء: القاتمون، والبقعة الفوقا والتحتا، والمصرارة، والطالبية، وذلك في العام نفسه، إذ لم يتبق إلا أربع عائلات" يقول تماري، مبينًا أن سكان غربي القدس من الفلسطينيين معظمهم بقي في فلسطين، وانتقلوا إلى الجزء الشرقي من القدس، خاصة في حي الشيخ جراح ومنطقة "بيت حنينا"، وبعضهم ذهب إلى رام الله، وبعضهم انتهى بهم المقام في الأردن ولبنان.

ويقدر تماري عدد سكان أحياء غربي القدس بنحو 60 ألف فلسطيني، أما عدد سكان القرى الأخرى فبلغ في ذلك الوقت 120 ألف فلسطيني، وأصبح الجزء الشرقي من القدس مكتظًّا بالسكان واللاجئين الذين هجروا من الجزء الغربي إلى الجزء الشرقي، ولجؤوا إلى المساجد والكنائس، والأحياء التي تبقت كحي سلوان، وجبل الطور، وبيت حنينا، وجبل المكبر وباقي الأحياء الأخرى.

وكان مقررًا في الخطة الإسرائيلية - والحديث لتماري- إجلاء تلك القرى لأغراض لإيجاد نوع من التفوق الديمغرافي الإسرائيلي، خاصة بعد قرار تقسيم القدس إلى جزءين شرقي وغربي، المعروف بقرار (181) - وذلك عام 1947م- الذي لولاه لكان عدد سكان الفلسطينيين ضعفي عدد اليهود هناك.

المقاومة بالقدس

استمرت المقاومة الشرسة في القدس ضد العصابات الصهيونية، حسبما يذكر تماري، في المدة ما بين عامي 1936م و1939م، وكذلك من شهر تشرين الثاني (نوفمبر) عام 1947م حتى أيار (مايو) من عام 1948م، وتقسمت إلى فرق بعضها تابعة لمجموعة "الجهاد المقدس" التي قادها عبد القادر الحسيني، وبقايا جيش الإنقاذ العربي من المتطوعين الذين كان معظمهم من الجيش السوري بقيادة فوزي القواقجي، فكان استشهاد الحسيني في نيسان (إبريل) عام 1948م سببًا في انهيار وتراجع المقاومة العربية.

ويستدرك تماري: "استمر الحسيني قبل استشهاده في القتال والمقاومة مع ضعف الإمدادات التي كان ينتظرها من سوريا ولبنان وشرق الأردن، ولم تأت قط، في الوقت الذي أتته فيه الكثير من الوعود من الجيش العراقي الذي قال إنه سيحضر إلى فلسطين لتقديم النجدة ودعم جيش الإنقاذ العربي".

استشهد الحسيني في منطقة "القسطل" التي تقع على بعد عشرين كيلو متر غربي القدس، وهي منطقة جبلية محصنة، شهدت أشرس المعارك التي أصابت العصابات الصهيونية بخسائر كبيرة.

ولعبت المقاومة المحلية والأردنية - حسب إفادة الباحث في مؤسسة الدراسات الفلسطينية- دورًا كبيرًا في المحافظة على بقاء القدس القديمة بأيد عربية، ولولاها لوقع شرقي القدس بالكامل بأيدي الاحتلال، الذي لم يتمكن من مواصلة حصاره للمنطقة بفضلها.

ويستدرك: "الجيش الوحيد الذي لعب دورًا أساسيًّا في الدفاع عن القدس كان جيش الإنقاذ بقيادة فوزي القاوقجي، الذي وصل إلى مشارف القدس، وكذلك جيش الجهاد المقدسي الذي قاده الشهيد الحسيني، ولكنه كان يعاني من غياب العتاد".

مرحلة 1967م

وحينما سقطت القدس عام 1967م قام الاحتلال بتوسعة حدود بلدية القدس المحتلة باتجاه الشمال والغرب، ولذلك بدأ يمهد لإقامة القدس الكبرى أو ما يعرف إسرائيليًّا بالقدس الموحدة تحت الإدارة الإسرائيلية، وألغى الاحتلال السياج الفاصل الذي كان يعرف بالمنطقة الحرام، التي كانت تفصل شرقي القدس عن غربها، فبدأ الاحتلال توسيع حدود المدينة المحتلة باتجاه رام الله شمالًا وبيت لحم جنوبًا، حسبما يؤكد تماري.

وفي عام 1969م أقام الاحتلال أحياء يهودية في شرقي القدس، خاصة بمنطقة التلة الفرنسية، ومنطقة النبي يعقوب، وبدأ الاستيطان بداخلها لعزلها ديمغرافيًّا عن أي تواصل مع الضفة الغربية، ومنح الاحتلال سكان القدس الفلسطينيين الوثيقة الشخصية الزرقاء، وكان أهالي الضفة يحصلون على وثيقة شخصية ذات لون برتقالي.

وأزال الاحتلال - تبعًا لإفادة تماري- في عام 1967م حارة الشرف، وأقام الحي اليهودي على أنقاضها بالبلدة القديمة، وهدم حي المغاربة المحاذي لحائط البراق لإقامة ساحة أمامه، وهجر سكانه وأبعدهم إلى مناطق مختلفة.

مراحل التوسع

وشهدت المدينة مراحل من التوسع، ففي عام 1948م قسمت إلى جزءين غربي وشرقي؛ فكان الجزء الشرقي عبارة عن كيلومترين مربعين خضعا لحكم الأردن، أما الغربي - ومساحته 19 كيلو متر مربع- فوقع تحت السيطرة الإسرائيلية، وعندما احتل الكيان العبري شرقي القدس عام 1967م توسعت حدود المدينة إلى 72 كيلو متر مربع، ثم أصبحت مساحتها بعد ذلك 126 كيلو متر مربع، ويسعى الاحتلال من خلال مخطط "القدس الكبرى" بحلول عام 2020م إلى توسيع حدودها لتبلغ مساحتها 800 كيلو متر مربع، وتشغل 10% من مساحة الضفة الغربية.

الصراع يتجدد

وبشأن الحديث عن تسريب أملاك الكنيسة الأرثوذكسية التي تقدر بنحو 33% من مساحة البلدة القديمة إلى الاحتلال؛ يحذر تماري من خطورة تسريب تلك الملكيات الوقفية، عادًا تأجير كل عقار وقفي مدة 99 عامًا، يهدف إلى تحويلها إلى ملكية الاحتلال، معقبًا: "هذا خطر على الأمن القومي الفلسطيني، خاصة أنه ليس معلومًا حجم تلك التسريبات"، وأخطر ما في هذه التسريبات أن الكنيسة تسيطر على أملاك وقفية كبيرة بفلسطين (4% من مساحة فلسطين التاريخية).

وختم المؤرخ الفلسطيني بالتعليق على قرار الرئيس الأمريكي الاعتراف بالقدس عاصمة للاحتلال: "إن ترامب فجر قنبلة بتوقيع قرار نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، وأحدث ضجة شعبية عربية وإسلامية ضد القرار، ووعاهم المخاطر المحدقة بالقدس والقضية الفلسطينية، ففتح ترامب من غير قصد بابًا واسعًا للتضامن العربي والإسلامي مع القدس، لأن القدس عاصمة للفلسطينيين".