أيعقل أن يخطب بنا خطيب عن القدس وضياعها ثم تنطلق مسيرة دعمًا للقدس من باب مسجده فلا يشارك فيها؟! هناك أزمة بين الخطيب والناس الذين يخطب فيهم.. يرى الناس كثيرا بونا شاسعا بين أقوال الخطيب وتطبيقاته لهذه الأقوال.. وهذا من أهم عوامل ضعف تأثير خطبة الجمعة وخطبائها.. انكسرت صورة الإمام الذي يتقدم الصفوف ويقود الجماهير نحو أهدافها الوطنية وغاياتها العليا في الحياة، لم يعد الخطباء قادة وأصبح الراتب الذي يقيهم العوز وشظف الحياة قيدًا في أعناقهم بينما هناك من يمتلك القدرة العالية في قيادة الجماهير ولكن يحال بينه وبين المنبر.
تناولت خطب الجمعة السابقة في فلسطين موضوع القدس هذه الأيام على ضوء الجريمة النكراء ووعد بلفور الجديد.. والحديث كان له بعد خطير جديد رغم أن كثيرا من الخطباء لم يغطوا هذا البعد واكتفوا بالحديث التقليدي عن القدس.. ومن المفترض في الخطبة أن تقوم بدورها المهم في صياغة الرأي العام والتأثير على ثقافة المجتمع بما ينتج السلوك المطلوب تجاه القضية المطروحة. ومن المفترض أن تقدم الخطبة وجبة دسمة خاصة وأن الموضوع من العيار الثقيل وأن ما جرى قد يعتبر بأنه الأخطر على القدس منذ أن كان احتلالها وضمها تحت السيادة الصهيونية.
قدم الخطباء شرحًا وافيًا عن مكانة القدس وأهميتها ووصفًا لما حدث ومدى خطورته على القدس ومسار القضية الفلسطينية وهذا ما لا بد منه ولكن قليل هم الذين قدموا للسامع المعالجات وكيف نتحرك الحركة العملية المطلوبة والممكنة بما يسهم في نصرة القدس.. كيف نخدم قضية القدس وماذا على الناس أن يعرفوا وماذا عليهم أن يفعلوا؟ كيف يسهم الخطيب بادخال الناس في دائرة الفعل بطريقة فعالة؟ وهنا نجد التفاوت بين خطيب وآخر.. نجد العاطفي ونجد العقلي ونجد من يجمع بينهما بطريقة بارعة ونجد من لا علاقة له بدائرة الفعل لأنه أصلا لا يفكر أن يدخل هو دائرة الفعل ويكتفي بالتنظير الإنشائي والجمل الرنانة والكليشيهات التي ملّ منها الناس.. حتى أن استخدام نفس الآيات والأحاديث رغم قداستها ومكانتها العالية في نفوس الناس إلا أن تكرار طرقها لمسامع الناس من قبل خطباء ليس لهم نصيب من فقه الواقع والروح العملية للدين يجعلها لا تصل إلى أعماق قلوبهم ولا تحرك فيهم ساكنًا.
لا بد من الاعتراف بأن خطبة الجمعة أصبحت هذه الأيام مأزومة وفقدت كثيرا من مصداقيتها عند الناس ولدي دليل وهو رد فعل الناس.. إذا جاءهم خطيب بخطبة عصماء أو خطبة رديئة سيخرجون من المسجد بلا مبالاة ولا يوجد لديهم أي استعداد لمناقشة الخطبة أو الخطيب أو حتى التعليق عليها وإذا لقوا الخطيب أثنوا عليه.. هناك تفاهم ضمني كما يقول الدكتور ماجد الكيلاني في كتابه فلسفة التربية الإسلامية بين الخطيب وجمهوره هو: أن يخطب بما يريح أسماعهم دون الخروج عن مألوفهم وهم يصفقون له.. قلّما نجد خطيب جمعة يخرج عن مألوف الناس ويطرق قلوبهم وعقولهم ويثير مكنونات نفوسهم بما يحرك إرادتهم للفعل والتفاعل مع قضاياهم كما يجب.
هذه الأيام عندنا يتم تحديد عنوان الخطبة وموضوعها من قبل الأوقاف.. من يحددها وما هي اعتباراته. لماذا لا يوجد لجنة من العلماء تشترك عقولها لعظم وأهمية هذه الأمانة؟ ولماذا لا يعلن عن اسم هذا الذي يتحكم بالخطبة الموحدة ولماذا لا يشارك الناس باقتراح مواضيع تهمهم؟ الخطبة تئن وتبكي من سطوة هذا الحاكم بأمر الله فيسقطها على الأئمة من فوق بينما حاجة الناس المتلهفة لسماع ما يفي بتطلعاتها.. والناس يأتون إلى بيوت الله وهو مهيؤون نفسيًا، عقولهم وقلوبهم مفتوحة لسماع ما يروي ظمأها ولكنهم على الغالب يعودون بخفي حنين.
وبالمقابل هناك العلماء العاملون، القادة الذين اكتووا بمعمعان الواقع المر، ذاك ينتظر الراتب وهذا ينتظر الشهادة أو الاعتقال أو تضحية لا يعرف حجمها.. ذاك ينتظر ترقية في وظيفة أو مكانة مرموقة عند أولي الأمر وهذا ينتظر أن يوقف عن الخطابة ويحرم من اعتلاء المنابر.
إن الكلمة عندما تؤخذ ممن ضحى وعانى وأكلت الزنازين من جسده وعاش الثغور ببردها وزمهريرها ودفع أثمانًا باهظة في سبيل حريته وحرية شعبه تختلف كليًا ممن تنعم في رحاب المنابر المفروشة بالسجاد الأحمر والحرير الناعم واعتاد التملق وسلوك دروب الجبناء ليرضي أسياده.. في هذه الأيام نستمع للخطابين فلنرعِ أسماعنا جيدًا ولنميز بين الغث والسمين والسطحي والعميق والميزان في هذا كله: من يرشد الناس ماذا هم فاعلون وعلى أية المواقف يقفون وكيف بخصوص قضيتهم المركزية: (القدس) يتحركون.