الشيخ مصطفى أبو عرة الشاهد والشهيد على سياسة القتل المبيّتة لأسرانا الذين هم رمز كرامتنا وعزّتنا.. لا بد من فضح أيديولوجيا وسياسة هذا الكيان والمتمثّلة اليوم ببن غفير وهو المسئول المباشر عن السجون.. لقد أحدث انقلابًا كبيرًا في معاملة الأسرى زمن هذه الحرب وما يتعرضون له من امتهان وتجويع وكسر لروحهم وكرامتهم.. سياسة فاشية متوحشة تفضي إلى الموت وتشويه الذات وتفريغ أرواحهم من محتواها الوطني والقيمي الإنساني. ليس صحيحا أنّها سياسة ارتجالية من بن غفير، ولكنها ممنهجة ومدروسة فلسفيا تفضي إلى قتل الروح وإزاحة هذا المحتوى الكفاحي والنضالي من أعماقهم، وصبّ الشعور بالقهر والاستبداد وتعطيل المحتوى الإنساني الذي يشكّل الذات الثائرة والرافضة الذي تقف على النقيض التامّ لهذا المحتلّ.
يجب أن ندرك تمامًا ماذا يعني لأهل الأسير أن يقتل أسيرهم وأن يخرج لهم محمولا على الاكتاف؟ هذا ضرب مباشر لروح أهالي الأسرى وكسر معنويّاتهم، ثم ضرب الحاضنة الاجتماعية التي ما فتئت تعتزّ بأسراها، لذلك هو إعلان حرب على الكلّ الفلسطيني لأن الأسرى يمثّلون الشعب الفلسطيني بكل أطيافه وفصائله ومناطقه، فهو استهداف للكلّ الفلسطيني بكل المكوّن الفلسطيني، وعلى رأس ذلك الهوية الثقافية الفلسطينية بكل محتوياتها الراسخة والأصيلة.
الشيخ الشهيد في الوعي الجمعي الفلسطيني هو ذاك الإنسان الذي قدّم حياته كلّها لله وجعل من روحه وقودًا خالصا لقضيّته، عاش بكل أوقاته وأقواله ومواقفه وأفعاله مشتبكا مع المحتلّ، نقيضا تامّا له لا يغادر الثغر الذي يتمترس فيه ولا يحيد قيد أنملة عن تصدير الموقف المطلوب مهما كان الثمن، سُجن مرات عديدة بما يزيد عن اثنتي عشرة سنة، وأُبعد إلى مرج الزهور مع الذين صنّفهم المحتل خطرا على كيانه، وكان من أوائل الذين اعتُقلوا بعد العبور العظيم يوم السابع من أكتوبر.
تعرض في هذا الاعتقال الأخير الى كل صنوف القمع والإيذاء دون أن ينحني ولو للحظة واحدة جبينه لغير الله، وحيث كانت قلوب أهله معلّقة بفك قيده كما هو الحال عند كلّ مرّة اعتُقل فيها، لكن الأمر اليوم مختلف، سيخرج إليهم محمولا على الأكتاف.. ما أفظع وأصعب تلك اللحظة لولا أنّهم يدركون أنّه آثر الموت والالتحاق بالرفيق الأعلى على حياة القهر والذلّ، أو الاستكانة والخضوع لسياسة الاحتلال.
ويأتي السؤال الذي لا بدّ منه حتى يكون لكلامنا مردود عملي: ما هو المطلوب لإنقاذ أسرانا من براثن الموت حيث نجح بن غفير في تحويل السجون إلى جحيم بكل ما تعنيه الكلمة؟ المطلوب أوّلا الحركة القوية للشارع الفلسطيني مع أسراه، فلا يمكن أن نتصوّر دورا باهتا للمساجد وجمهور المساجد وأئمة المساجد أمام آلة القتل هذه، الكلّ عرضة للاعتقال، وإذا اعتقل عرضة للتنكيل المريع والضرب والتجويع إلى أن يصل إل حافة الموت، لذلك فإنّ حركة المساجد بالدرجة الأولى هي التي تحرك الشارع وهذه مطلوبة من الأئمة، تغيير حقيقي في وعي الناس بأن المسيرة والخروج للشارع من أجل أسرانا ليست مهمة أهالي الأسرى وحدهم، وإنما كما ورد في الحديث الشريف: "كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته"، وأن لهذا الخروج درجة الواجب في دينيًا.
هذا مفهوم يجب نقشه في رؤوس الناس وأن يكون الإمام قدوة لهم، وإلا لا خير في كلامنا. هل يعقل أنه في وقفة المنارة يوم الجمعة وبعد الصلاة لا يأتي من المساجد المحيطة سوى نفر قليل؟ لِم في اليمن يقف الحوثي خطيبا الخميس فيخرج في صنعاء وحدها مليونا شخص من بداية الحرب لليوم دون كلل او ملل. نحن اصحاب القضية وضعنا مؤلم جدا، لا بد من تحريك الشارع هذا أوّلا، أسرانا في خطر حقيقي وشهادة الشيخ مصطفى الأخيرة هي قرع لجدران قلوبنا. يجب أن تتحرّك قبل أن تُخرج لنا السجون من الشهداء بالعشرات إن بقي الوضع على حاله، أين ترجمة الحديث الشريف إن اشتكى عضو تداعى له سائر الجسد؟ اليوم يقتل عضو شرّ قتلة بعد أشهر من التعذيب المرير، أين حركة بقيّة الجسد؟
ثم أين دور الفصائل الكبرى والصغرى في تحريك الشارع، خاصة أن المستهدف في السجون ليس فصيلا واحدا وإنما الكل في ماكينة الموت والعذاب متساوون، وإن لم يوحدنا نهر الدماء المسفوحة على أيدي هذه العصابة المجرمة فلتوحدنا عذابات أسرانا وأرواحهم الصاعدة إلى المساء. وأين دور السفراء في تدويل قضية الأسرى إعلاميا وقانونيا؟ هل ننتظر دولة مثل جنوب أفريقيا لتتبنّى الملف ثم ننضم إليها؟ لِمَ لا يبادر المستوى الرسمي عندنا لإنجاز هذه المهمة؟
أدرك تماما أن عاجلا أم آجلا أنه لن تذهب هذه الدماء في غزة أو الأرواح الصاعدة من السجون أو في الضفة أو اليمن ولبنان، والانتقام ليس قادما وإنما هو قائم بما يقوم به محور المقاومة، ولا داعي لتعداد آثاره على وضع الكيان إن حاضرا أو مستقبلا، لذلك فإن إشراقة شمس الحريّة قادمة لا محالة، هذه سنة التاريخ مع كلّ الذين توحّشوا وبالغوا في سفك الدماء.. "سنة الله ولن تجد لسنّة الله تبديلا".