"احمل حجرًا وارشق جنود الاحتلال، حاصر مواقعهم وأغلق الطرقات في وجوههم بالمتاريس، أشعل إطارًا وسمم الهواء الذي يتنفسونه معنا؛ فليس لهم أي حق فيه"، هي بعض من أفكار الماضي الجميل التي اختزنتها ذاكرتنا، وهيمنت على فكرنا ووجداننا قبل ثلاثة عقود بالتمام والكمال، لكنها مرت كحلم عابرٍ أو طيف لن يعود.
لم أكن يومها وكل الشبان الذين في مثل سني الذين أطلق علينا اسم "أطفال الحجارة" لم نكن يومها نحسب حسابًا لأي شيء، ولم نفكر فيمن سيمضي شهيدًا ومن يبقى ليقاوم، لم نخش الموت ولا القتل أو الشهادة، لم نخش الأسر أو الحبس أو الاعتقال، حتى إننا لم نكن نعرف الفرق بين معانيها، ولم يكن لدينا طموح إلى رتبة أو منصب أو نيشان، لم يكن لدينا أهداف سياسية ولا دبلوماسية ولا حزبية منمقة، لم نكن قلقين بشكل أو آخر على راتب أو وظيفة أو لقمة عيش؛ فكل ذلك كان من الصغائر الملقاة جانبًا ولا يلتفت إليها أحد، كل شيء يهون أمام قطرة دم الشهيد.
أذكر يومها أن أي شهيد يرتقي من رفح حتى جنين كان يستوجب إضرابًا تكافليًّا شاملًا في كل فلسطين مدة ثلاثة أيام، تغلق خلالها المحال التجارية والمدارس، وتتوقف حركة السيارات في الشوارع، فلا ترى فيها إلا المتاريس والإطارات المشتعلة، كان الدم خلالها يجر الدم، والشهيد يتبعه الشهيد، وكانت الأرواح تقدم طواعية بسخاء منقطع النظير، ولهذا لم يفهم العالم حتى اليوم اللغز الذي حير الكون يومها: "كيف يواجه هؤلاء الأطفال جيش الاحتلال، وأسلحته النارية، وعتاده، وناقلات جنده بصدورهم العارية، وأيديهم الغضة الخالية إلا من تلك الحجارة؟!".
كنا يومها شعبًا رائعًا عظيمًا، التكافل بين الشرائح الاجتماعية كافة أبرز سماتنا، لا يهنأ إنسان بملاطفة أبنائه أو ملاعبتهم، وفلسطيني آخر _مهما كان بعيدًا_ لديه ابن شهيد أو جريح أو أسير، ولا ينام غني آمنًا في بيته أو سربه، ولديه جارٌ جائع، علمتنا تلك الانتفاضة أن نكون شعبًا واحدًا قويًّا متماسكًا، هبتنا يومها كانت تلقائية وصادقة صدرت عن ضمير وطني حي ونابض، ولم تكن موجهة أو مخططًا لها، في حينها عمل العالم لنا ألف حساب؛ فشعب انتفاضة الحجارة كان يثق يومها بأن النصر هو من عند الله وحده، فما أجمل تلكم الأيام!